بدأ مسار - ما بات يُعرف بملف العشرية - أول ما بدأ ، من برلمان فاقد للمصداقية ، بسبب جريمة الشروع في خرق دستور البلد ، غداة حراك المأمورية الثالثة ، ثم عُهد بهذا الملف ، للجنةٍ تحوم حولها شبهات فساد معروفة ، و خصومة مع الرئيس السابق ، فكانت هي الخصم و الحكم !
لم تلبث هذه اللجنة أن تعرّت و بانت سوءتها ، من خلال الاتصالات ، و العزومات المتبادلة مع مشمولين في الملف . مكّنتهم لاحقا من الخروج من دائرة التقرير و اتهاماته . و كلنا سمعنا تلك التسريبات المقززة ، التي يقول فيها مقرر اللجنة لأحدهم : "صاحبك انت اگلعناه و الا انشالله اتگرْ فيه" في حين يتأسف لمُحدِّثه أنَّ الشخص الآخر لم يتصل عليه إلا بعد إيداع الملف !
فيما كانت سمسرة نائب آخر من أعضاء اللجنة ، عابرة للقارات ، لفّقتها سفارة دولة أجنبية ، و شهد عليها شاهدَا زورٍ - قبل أنْ يتراجعا عنها - لتتحول إلى نكتة سمجة ، و ليلتصق اسم صاحبها بنائب تيدره و الى الأبد !
ثم ما لبث ان اتضح بشكل جلي ، الاستهداف الذي لا تخطئه العين للرئيس السابق دون غيره ، و ذلك بأنه الوحيد و صهره و أحد أقربائه ، من طالهم التوقيف و الحبس من بين ما يزيد على مئات المشتبه بهم في هذا الملف !
و هكذا بعد سنتين كاملتين من البحث ، سُخِّرت فيهما أجهزة الدولة و مخابراتها ، و تم فيهما تسليط أدعياء الصحافة و إعلام الحواضر ، و كتائب المتملقين و المطبلين و المنْتَقِمين ، هُتكت فيهما الأعراض و سُلقت فيهما الناس بألسنة حداد ، و امتلأ الفضاء الإعلامي بالشائعات : سبائك ذهبية مدفونة في الرمال ، و حقائب ملئى بالدولار ، و صناديق آكرا ، و صفقة بيع السنوسي ، و مليارات الدولارات المخبئة في بنوك الامارات ، و مئات السيارات و الشاحنات ، و أطنان من الذهب و مليارات أخرى تم شحنها إلى مملكة سواتيني ، و ناطحات السحاب في باريس و دبي .. و الطائرات التي كانت تجوب الصحاري لترمي قطع الذهب لخداع المنقبين ...
أخيرا تمخض الجبل فولد ملفا خداجا ، تستحي جهة الاتهام فيه - في مفارقة غريبة - أنْ تسلمه للمتهم المزعوم أو لفريق دفاعه !
سنتان كاملتان تمّ فيهما تعطيل البرلمان ، بعد أن أدّى الدور المرسوم له ، من خلال لجنته المشبوهة ، ليغطّ في نوم عميق .. سنتان لم تتم فيهما مساءلة أي وزير و لا استجوابه ، رغم انتشار صفقات التراضي التي عمّت بها البلوى ، رغم تقارير محكمة الحسابات التي تحدثت عن فساد و إفساد كبيرين ، رغم صندوق كورونا - الذي اعترف رأس النظام بوجود اختلالات معتبرة في تسييره - و الصناديق الأخرى التي تناسلت كالفِطر في برنامج تعهداتي و أولوياتي و خدماتي .. لتكون مجرد جعجعة بلا طحين ، رغم القمع الذي طال الطلاب و الرجال و النساء و الأطفال في ازويرات و تفيريت ، و اختطاف المدونين و تكميم الأفواه و مضايقة الأحزاب و اغلاق و مصادرة مقراتهم !
يجري هذا كله وسط صمت مطبق كصمت الأجداث ، لبرلمان المأمورية الثالثة ، رغم وجود نص بتخصيص يوم من كل أسبوع لاستجواب أحد الوزراء !!
فجأة يعلن حزب الرباط عن مؤتمر صحفي للرئيس السابق ، فيستنفر النظام أجهزته ، لمنع المؤتمر بغلق المقر ، و التشويش عليه و التضييق و الخنق ، بمنع بثه من خلال القنوات التلفزيونية "الحرة" ، رغم ذلك يخرج صوت الرجل - و إِنْ مبحوحا - عبر شاشات الهواتف ، ليحكي بمرارة عما آلت إليه أحوال البلاد من فساد و سوء تسيير ، لم ينجُ منه لا بر و لا بحر و لا نهر ، و يُقدم الرجل أرقاما لميزانيات التسيير التي تمت مضاعفتها رغم تقليص مستخدميها ! و عن الثروة السمكية التي تم نهبها بالكامل ، و عن قطاع الزراعة الذي تراجع بشكل كارثي ، خلّف موسمين دون حصاد ، و عن تعطيل مسار البناء و التنمية ، بانعدام المشاريع التنموية . بل إن الرجل تجاوز ذلك ليكشف وسط ذهول الجميع ، عن التلاعب الحاصل في الثروة المعدنية - بشكل يرقى إلى الخيانة العظمى - من خلال التنازل عن معدن الذهب في "تمايَه" لشركة كينروس ، و طرد آلاف المنقبين عنه ، و التنازل عن مبالغ مالية هائلة ، كانت الدولة قد استعادتها من هذه الشركة سيئة الصيت .
و في مفارقة عجيبة ، يبدو أن حديث الرجل المبحوح أيقظ البرلمان الغاطّ في نومه العميق ، لا ليمارس دوره الرقابي المنوط به ، فيبادر بتشكيل لجان للتحقيق ، و يُسائل الحكومة عن سيل المعلومات الصادم عن الفساد المستشري ، و إنما يستفيق ساعة من نهار ، ليتقدم بشكوى جديدة من الرئيس السابق ، باتهام رخيص تجاوزته الأحداث ، بتسريب صوتي طارت به الركبان ، فدخل كل بيت موريتاني ، قبل أنْ يتناوله الرئيس السابق في حديث صحفي عابر !
و يتم الإيعاز لأدعياء الصحافة أن أرجئوا حديث الرجل عن الفساد و واقع البلاد ، و ابعثوا في المدائن حاشرين إعلام الحواضر و مُدوّني خلايا الداخلية و الديوان ، فأجمعوا كيْدكم و اجعلوا أصابعكم في آذانكم ، و لا تسمعوا لحديث الرجل ، و الغوا فيه لعلكم تغلبون .
الرجل قال سابقا إنّ لديه المال ، فمن أين له هذا المال ؟ يقول الكائدون !
فيصيح القطيع "من أين لك هذا ؟ " ، "من أين لك هذا ؟..
و وسط عويل آخر سلالات الليل ، توشك الحقيقة أن تختفي ، و تضيع مقدرات أمة ، و تُنهب خيرات وطن ، معادن تُنتزع من المنقبين لتُعطى لشركات دولية في ظروف غامضة ، تحت غبار فرق عسكرية تجوب الصحراء ، لتستولي على نقاط المياه ، و تُنتهك حرمة المنازل بتخريبها ، و الحفر تحتها لاستخراج "الكنز المفقود" فيصيح القطيع "نعم لاستعادة الأموال المنهوبة" .
ثروة سمكية تُستنزف ، و قطاع زراعي ينتكس ، و وضع أمني مُتردٍ ، و تراجع تام على مستوى الحريات ، و إعادة تدويرٍ للمفسدين ، تحت غطاء صراخ قطيع يصيح "من أين لك هذا .. من أين لك هذا ؟" …
في مغالطة وقحة ، و ضحك على الذقون ، و استحمار للرأي العام !
أليست قرينة البراءة هي الاصل ، و المتهم بريء ما لم تثبت إدانته ، فأي استغباء للناس ذاك الذي يجعل عبء الإثبات يقع على المتهم بدل المدَّعِي ؟ أَلا ينص القانون بشكل صريح ، أنّ المدَّعَى عليه غير ملزم بإثبات براءته ، و أي تفسير معقول يُفسَّر لصالحه ، بل إن الإعلان العالمي لحقوق الانسان ، ينص في المادة 11 على أن "لكل شخص متهم بجريمة أن يكون بريئًا حتى تثبت إدانته وفقًا للقانون في محاكمة علنية يتمتع فيها بكل الضمانات اللازمة للدفاع عنه"
ثم لماذا السؤال فقط عن هذا "الهذا" دون "هذاءات" أكبر و أعظم لدى الآخرين ، من جنرالات و وزراء ، و مدراء و رجال سياسة ، و سماسرة و رجال صفقات و مال ؟!
أَلا يعلم الجميع أنّ وظيفة الرئيس - أيّ رئيس - لا علاقة لها البتة بالتسيير المالي ، و بالتالي فأي اتهام له ، تخلو لوائحه من أسماء المُسيِّرين و المدراء و الموظفين ، و الأطر و الأمناء العامين و الوزراء ، لن يكون إلّا ابتزازًا مكشوفا و تصفية للحسابات .
لا أحد ينكر وجود فساد ، فالفساد مستشرٍ في هذا البلد منذ الأزل ، لكن أليس لنا الحق أنْ نتساءل و بصوت عال ، متى كانت هنالك إرادة للتصدي لهذا الفساد ، بسنِّ ترسانة قانونية لمحاسبة المفسدين ، و استرجاع مسروقاتهم قبل عشرية "الفساد" ؟؟ و متى كانت بيانات اجتماعات مجلس الوزراء تتضمن تجريد المسؤولين من وظائفهم بسبب الفساد قبل عشرية "النهب" ؟؟
كلنا مع محاربة الفساد و التصدي له ، وتفعيل آليات الرقابة و تشديد المحاسبة ، لكن من أجل إحقاق الحق وحده ، لا أن تكون استهدافا سياسيا ممنهجا لتصفية الخصوم .
ثم دعونا نلتقط أنفاسنا و لو قليلا ، من وعثاء الركض وراءكم في رحلة التيه ، لاستعادة الأموال "المفقودة" ، لنُسائلكم عن هذه الحاضرة التي تُديرونها بينكم ، فحفظ هذه أولى من البحث عن تلك ، ذلكم أقوم عند الله و أقسط .
فماذا قدمتم خلال عامين كاملين من التسيير ، شهد فيهما معدن الحديد - العمود الفقري للاقتصاد الوطني - طفرة غير مسبوقة ، فماذا أنجزتم غير الوعود الكاذبة ؟ و هلّا قدمتم لنا معشار ما شُيِّدَ و أُنجز خلال عشرية "النهب" لكي لا نكون شهودا على أننا أمام فساد يحاكم الرشاد ، و فشل يحاسب الانجاز ، و عجز يقاضي الكفاءة ، و هل كان الرئيس السابق إلا رجلا وجد أمامه ركام وطن ، فبنى و شيّد ، و مضى إلى سبيله . يبدو أنه لم يكن مفسدا - و إِنْ زعمتموها - ينثر أموال الشعب على الساسة و الإعلاميين و المتملقين ، فكرهه الساسة و أدعياء الصحافة و المطبلون . فنال كما هائلا من الإساءة ، في مسار معاكس لمنطق الأحداث و الوقائع على الأرض ، إساءة تجاوزت أحيانا كثيرة ، سياسة نظامه إلى شخصه و محيطه الاجتماعي ، فتسابق الجميع من مثقفين و سياسيين و حقوقيين و شعراء و مدونين .. لمحاولة النيل من الرجل الذي تجاوزت إنجازاته على الأرض - مهما زعم الأفاكون - في بضع سنين ما تم تشييده خلال نصف قرن من الزمن !
و لطالما تناوشت أيادي الباطل أهداب الحق ، فإنْ لم تقف إلى جانب الحق تائبا ، فكن في منزلة بين المزلتين راغبا !
مهما يكن و بناء على كل ما سبق ، و نتيجة للاستهداف الواضح و الممنهج ضد الرئيس السابق ، فإن الرأي العام لن يقتنع بالنتائج المترتبة على محاكمة غير علنية و مفتوحة للجمهور ، و وسائل الاعلام الوطنية و الدولية ، تقدم فيها أدلة واضحة لا تقبل التشكيك ، و يتمتع فيها الرئيس السابق بكل الضمانات اللازمة للدفاع عنه .
في انتظار ذلك ، على كل الخيرين العمل بجد و تفان من أجل وضع قطيعة تامة مع نخبة التملق ، و الساسة المجاهرين بولائهم للكرسي ، من أجل كسر قيود الذل و التبعية و مواجهة المحسوبية ، و تصفية الحسابات و فساد السلطة ، ورفض التركيع و الترويض .
من أجل دولة القانون و سيادة القانون ، و حرية الرأي و التعبير ، حتى يسود العدل و الإنصاف و المساواة بين جميع المواطنين .