
لا شك أن المراقب المتابع للمشهد السياسي اليوم سيلاحظ دون كبير عناء ، اختلالات جوهرية و خطيرة في طبيعة الممارسة السياسية في البلد ، باتت تهدد كيانه و وجوده في الصميم ، لأن هذه الطبقة السياسية التي تحكمنا الآن ، و التي تدعي أنها تريد استرجاع الأموال المنهوبة من خلال محاكمة الرئيس السابق ، هي ذات الوجوه التي كانت تريد أنْ تخرق الدستور بالأمس القريب للتمديد للرجل ، نفس البرلمانيين ، نفس الوزراء ، نفس الساسة ، الذين كانوا يتغنون بانجازاته ، في الطاقة و المياه و البنى التحتية ، من موانئ و مطارات و طرق معبدة و مستشفيات و جامعات و مدارس و حالة مدنية و بناء للجيش ، و ما صاحب ذلك من تحرير للفضاء السمعي و البصري و حريات عامة .. الخ
بالاضافة الى قطع العلاقات مع اسرائيل و الحضور الدولي المميز و فرض هيبة الدولة و سيادتها...
و الشيء الوحيد الذي استجد بعد جوقة التطبيل تلك ، هو أن الرجل توّج هذه الانجازات التي كانوا يتغنون بها بأن استن سنة حسنة بتبادل سلمي و سلس على السلطة بعد أن رفض مسايرة الأغلبية - التي تحاكمه اليوم .. فما الذي جرى حتى قلب له القوم ظهر المِجنّ ؟
ترجل الرجل الذي ملأ الدنيا و شغل الناس ، ليترك وراءه رأيا عاما صنعه تياران ، تيار كان يحمل لواء المعارضة ، تعوّد نشر الإحباط و التثبيط و الخيبات ، يشاهدون تشييد المرافق العمومية و ورشات الإعمار ، و لا يطالبون إِلَّا بالإبقاء على "ابلوكاتْ" .. عمارات شاهقة ترتفع و جامعات كبرى تُبنى و لا يهتمون سوى بمصير "المدرسة رقم 8" !!
و تيار أغلبية من متملقي كل الأنظمة و مطبليها من الفاسدين و المفسدين ، كانوا بالأمس يخلعون عليه ألقاب لومومبا و جمال عبد الناصر .
فأوحت شياطين هؤلاء و اولئك الى الرئيس المنتخب أن اقتل عزيزا أو ارمه في غيابات جب النسيان ، يخلو لك وجه النفوذ و صولجان السلطان ، لتتسنى لهم العودة الى امتصاص خيرات البلد كعادتهم على حساب الفقراء و المهمشين و المواطنين البسطاء ...
تلك كانت ظروف ولادة هذا النظام ، الذي يتولى تسيير البلاد منذ عامين كاملين و لنا اليوم أن نتساءل عن انجازاته خلال هذين العامين ؟
رغم ارتفاع أسعار الحديد الى مستويات غير مسبوقة ، و ارتفاع المديونية و عودة البلد إلى عهد اليد السفلى بجمع المساعدات و الصدقات :
مجرد وعود كاذبة و خطابات رنانة ، بعربية لا شك صقيلة تتحدث عن إقلاع إقتصادي ، يبدو أن طائرته أقلعت بالطبقة السياسية الحاكمة وحدها ، تاركة المواطن على مدرج الاقلاع يضرب أخماسا لأسداس ، وسط مشاريع من نوع إقناع المواطنين بأكل السمك ، و أخرى تتعلق بذكاء مدينة انواكشوط !
فهلّا قدم لنا هذا النظام معشار ما أنجزه الرئيس السابق ، لنعلم أي الفريقين أولى بالمحاكمة على الفساد و الإفساد ، و من ينبغي أنْ يحاكم من ؟
ثم إن رأس النظام سيكون مطلوبا للإدلاء بشهادته في هذه المحاكمة العبثية ، لينقض أو يثبّت شهادة له سابقة في يوم مشهود ، وصفها بأنها شهادة للتاريخ في حق زميله و رفيق دربه !
هل تريدون لنا أن نخلع بعض عقولنا لننتقل بين النقيضين دون أمد بينيٍّ معقول ، و هل يقبل المنطق السليم أن يكون السياسي فاعلا في المشروع ونقيضه دون انقضاء فترة سماح طويلة ؟!
هذ محض ازدراء و تلاعب بذاكرة الشعوب وخروج على الذوق العام .
مع ذلك أعتقد أن المشكلة هنا ليست قضية الرئيس السابق ، أو غيره ، الأمر أعمق من ذلك بكثير ، فالقضية تتعلق بشعب كامل و بمصير وطن .
الرئيس السابق حكم البلاد في مأموريتين له ما له و عليه ما عليه .
هل له الحق في أن يمارس السياسة ؟
نعم بكل تأكيد ، أنْ تكون معه أو ضده تلك مسألة تتعلق بحرية الرأي و التموقع السياسي التي يكفلها الدستور ، غير أن الأهم من كل ذلك ، أنه آن الأوان أنْ تتحد جهود الخيرين في هذا البلد، مهما اختلفت آراءهم و مشاربهم ، على هدف واحد و وحيد و هو مواجهة هذه الطبقة السياسية الفاسدة ، المتلونة و المفسدة ، التي تحكمنا اليوم ..
لا مناص من مسح الطاولة بالكامل و تنظيفها من هؤلاء ، لا أمل في اي اصلاح مع هؤلاء ، لقد مللنا تكرار نفس الأسماء و إعادة تدويرها .
و البداية ينبغي أنْ تكون بفضح أدعياء الصحافة و إعلام الحواضر ، من المرتزقة ممتهني الانتهازية و الحمية الحمقاء لولاءات تضرم النار في القيم و مفاهيم الشرف و الكرامة ، لتبقى لهم دولة يمتصون خيراتها و يتشبثون بهيكلها الخرب .
ينبغي أن يبدأ عهد جديد من ممارسة السياسة النظيفة ، يتصدره جيل لم يستفد يوما من المناصب ولا الأعطيات ، ولا يرى السياسة كمصدر تربح شخصي ، بقدر ما يراها وسيلة و آلية لبناء أمة و النهوض بوطن ..
جيل جديد يصدح بالحق من أجل تعرية هذه الطبقة السياسية الفاسدة و المتواطئة مع الحاكم على حساب تطلعات الجماهير و آلام الفقراء و المستضعفين .
من أجل كسر قيود الذل و المهانة و التبعية و مواجهة فساد السلطة وطغيان الحكام ، من أجل رفض التركيع و الترويض.
من أجل الدفاع عن المكتسبات الديمقراطية و ترسيخ الحقوق و توسيع دائرة الحريات ، من أجل أن يقال و بصوت عال للمحسن أحسنت و للمسيء أسأت ، من أجل أن تلتف الجماهير حول من يخدم أكثر لا من يتحكم أكثر ..
من أجل أن يُرْغَمَ المتملقون و المطبلون و المتلونون و المجاهرون بولائهم للكرسي ، على الانزواء و الاكتفاء بالهمس الخافت بدل الصراخ الهادر .
و لقد آن لهذه الوجوه البالية أن تنطفئ و تختفي من المشهد السياسي ، لنرسم أحلامنا و نصنع مستقبلنا .