كان الاتفاق غير المكتوب بين غزواني وولد عبد العزيز شيء مجهول .. لكنه ربما يكون عدم المشاركة الفعلية فى السلطة ، والمشاركة كلها فى مظاهر القوة .. فتصوره البعض - غزواني- رجلا ضعيفا فأخطأوا الحساب لمرة واحدة .. كانت الاخيرة .. فالرجل الذى ادرك أكثر من غيره معنى الرئاسة لم يغامر مع أية معارضة لدرجة الانقلاب على من أرادوا مشاركته الحكم .. وإن كان الانقلاب على سيدى ولد الشيخ عبد الله أستنشقت أنوفنا منه أشياء تبدوا للوهلة الاولى لا تستحق الاهتمام وإن كانت فى الواقع تمثل شيئا آخر .. فحين أعلن سيدي وقتذاك ذاك ازاحة عزيز وغزواني لم يكن الاخير موجود فى انواكشوط بل كان على بعد مئات الكلمترات يرتشف اللبن وهو رجل مخابراتي بإمتياز .. فتحزم ولد عبد العزيز بشجاعته المعروفة وأوقف البيان وقام بالانقلاب ودخل غزواني بعد ان انتهي كل شيء ! .. برزت علامات استفهام فى غياب الرجل .. بقت معلقة فى الهواء لم تر النور لتسارع الاحداث وهي لا تصب فى احتمال ان يكون الرجلان يلعبان الآن .. وإن كان ولد عبد العزيز شخص يحسب كل شيء من العناصر التى تظهر أمامه ويضع امامه مختلف الاحتمالات والترجيحات ويختار دوما لحظة السلب عند الخصوم فيستقر على الكفة الأقوى .. لكنه لم يتعامل مع ولد الغزوانى طوال وقته على انه خصم خفى .. بل على العكس تعامل معه دوما على انه شيء يفوق الصداقة والأخوة .. وهذا الشيء هو مركز العلاقة التى بسبها كل واحد منهما كان مرتاحا للآخر وقت سفر ولد عبد العزيز الى باريس للمعالجة !
والسؤال الذى يطرح نفسه .. لماذا لم يتعامل معه.... هل هو أستاذه .. أم تلميذه ؟
عاش غزوانى فى سياسته طوال فترة ولد عبد العزيز على مرحلتين لهما مرحلة ثالثة وُلدت من رحم الاحداث ..التمرد الصامت والجمود الخبيث .. أما المرحلة الثالثة والغائبة هي مرحلة نوعية العلاقة التى تربط بينهما .. يصر كل منهما اصرارا واضحا على انه اخو الآخر وان علاقتهما ربما تمتد الى تاريخ ماقبل 40 سنة وهذا هو المشهد الذى خدع الكثيرين على حين ان العلاقة التى تجمع بينهما تحولت قبل ايّام من الانقلاب على معاوية الى علاقة بين مدرسة وطالب !
غير أن المدرسة هنا تخضع احيانا كثيرة للتلميذ وذلك لمقتضيات الطريق .. وولد غزواني يدرك جيدا أنه فى تلك المرحلة الحرجة لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يتجاوزها الا بوجود ولد عبد العزيز ولم يشعر هذا الاخير فى يوم من الايام انه تلميذ بل على النقيض فهو يحس دوما انه هو الاستاذ وهذا مايريده غزواني ولم يكن وجه ولد عبد العزيز طوال العشرية سوي نسخة طبق الأصل لوجه غزواني المتواري وحتى المعارضة لاتدرك برجالات أعمالها الكبار ولا مسنيها انهم كانوا يتعاملون مع وجه ولد غزواني !
لكن الرياح لم تعد تشتهي ان تجري بما لا تشتهي السفن .. بل أصبحت الاخيرة تتحرك بما لا تشتهي الرياح !
أدرك ولد الغزواني متأخرا بانه لم يعد يستطيع التحكم فى سيمفونية العزف بل اصبح هو التلميذ فكان لا بد للمدرسة ان تغير منهجها !
لنقفز اذن قليلا..لم يتبق سوى تفاصيل بسيطة لينتهي كل شيء، أعد ولد الغزواني عدته بليل، وفي غياب ولد عبد العزيز بعدما سافر وبعدما ودع الرئاسة لحليفه .. سقط برصاصات الغدر، وهكذا تبدأ حلقات اللعبة السياسية حين يستلب العقل في دوائر التغييب !
كان مبدأ التفويض الإلهي حيلة الكهنة منذ القدم، في محاولة للمماهاة بين حاكمية الله وسلطة الكهنة، وربما كان الفكر السريع الذى لا يتحمل الصبر يرى في الانصياع لهم ملجأ يوفر نوعا من الحماية والأمن تجاه الهزيمة على الصعيد السياسي ومن هذا المنطلق راح الجمع الى غزواني الذى جمع بين الحقيقة وجملة من التمويهات ، ويسعى دوماً إلى تعبئة النفوس وشحن العقول حتى يحمل أصحابها السيف ذاته الذي أطاح بالمختار وهيدالة ومعاوية ويستقر أخيرا بطريقة اخرى في ولد عبد العزيز !
والنتيجة الحتمية التى يمكن لمّ أجزاءها من اكثر من زاوية حادة والتى استعصي فهمها على التيوس والحمير الذين يعلقون فتاتي مداخلاتهم كحاطب ليل لا يفرق بين الحطب وروث البعير .. ذلك ان الفلسفة شيء والنقد الأدبي شيء آخر وما دخلت الفلسفة النقد إلا وأفسدته وجنت عليه وسبب ذلك ان الفلسفة تعنى بمسائل التفكير المجرد الخالص والنقد الأدبي فمسائله تقوم أساسًا على الذوق ومن هنا يمكن للفنان ان يستخدم خياله الواسع .. والذوق لا يعلل ،فلن تستطيع ان تفهم العلة فى ان كلاما ما فى صورة ما ينير فى الانسان عواطفه ويؤجج شعوره بينما هو فى صورة اخرى لا يحرك فى الانسان ساكنا .. ولذلك يجب احترام التغييرات التى طرأت على نقد القرن الثامن عشر !
أعود وأقول أن النتيجة الحتمية ....كانت عنوانا لحرب جديدة هي معركة الأفكار فعندما يضل المنطق طريقه تبدا وتيرة الاتهامات لكسب العقول عبر استخدام القوة الناعمة لتشكيل العقول وغسيل المخ عند طيف واسع من القطيع فمن يربح معركة الأفكار سوف يربح كل شيء.... لكن ولد عبد العزيز دخل معركة الأفكار .. ! يتواصل
———-
لكي تفهم مايحدث أنظر الى الخلف !
ما الذي حدث (4)
يتناول قهوته ليتمشي ببطء بين شجيرات وحدائق القصر الرمادي وحوض السباحة .. مرسلا خياله بعيدا ، ليري بالعتمة كل شيئ بوضوح .. .. مستعرضا فيلما طويلا -إن جاز التعبير - ..تاريخه الشخصي ممزوجا بولد عبد العزيز وموريتانيا .. متأملا الذات في الأحداث .. والأحداث في الذات .. تلك لحظة إنسانية تتعرى من ثيابها، وترفع عن وجهها القناع.. القناع الذي يفرضه أتون الصراعات التي لا تنتهي .... يتواصل ..