بنشاب الحسن أبه ـ استيقظت ساكنة مدينة اكجوجت يوم الأحد الموافق 15 يوليو 2012 على مقتل أحد أبنائها العامل بشركة MCM وجرح 14 آخرين واعتقالات في صفوف العمال المضربين عن العمل منذ ثلاثة أيام ، وعاشت المدينة لأيام تحت صدمة هول ما حصل وعادت أحداث مدينة ازويرات ( 29 مايو 1968 ) للذاكرة ونظمت مظاهرات ووقفات غضب عفوية في عدة مدن ، وغضت الحكومة الطرف عن مسيرة نظمتها شبيبة المعارضة في انواكشوط توجهت لمقر الشركة بالعاصمة لامتصاص الغضب الشعبي ، قبل أن يتم قمعها حينما توجهت لوزارة الداخلية .
في ذلك اليوم المشؤوم كان الشاب محمد ولد المشظوفي ( 35 عاما ) يصلي ورفاقه صلاة الفجر في مكان اعتصامهم أمام الشركة حينما هاجمتهم فرقة من الحرس بمسيلات الدموع أعقبته بسحل وضرب واعتقال من استطاعت السيطرة عليه منهم ، وتم تصفيد المعني مع زميل له ورمي بهما ( مقيدان معا بنفس القيد ) في حوض السيارة وتم ضربهما بالأحذية العسكرية قبل أن يصيح فيهم زميل المعني بأنه قد مات ، ستتوجه بهما سيارة الحرس لمفوضية الشرطة التي رفضت استلامهما لأن حالة المعني حرجة وعليهم التوجه به للمستشفى ، بينما بقي أفراد الحرس يصرون على أنه " يمثل فقط " ، ولكنهم قبلوا أخيرا التوجه به للمستشفى الذي أخبروا طاقمه بأن المعني مغشى عليه بسبب استنشاق دخان وغازات مسيلات الدموع ، قبل أن يخبرهم الطاقم بأنه ميت فعلا ولا " يمثل الإغماء " .
وتحت غضب الساكنة وعمال الشركة وإصرار أسرة المعني على معرفة سبب الوفاة ، ستنقل الجثة للعاصمة من أجل إجراء عملية تشريح عليها ولن يدفن المعني إلا بعد 48 ساعة بمقبرة لمجيدري باكجوجت في يوم حزين شهد تشييعا مهيبا للمعني حضرته كل ساكنة المدينة إضافة لرؤساء النقابات الوطنية الذين لحقوا بعمال المدينة لمؤازرتهم في إضرابهم وتعزية أسرة الفقيد ، وستتوقف الشركة عن العمل ( مؤقتا ) ويتم إجلاء عمالها الأجانب بطائرة إلى انواكشوط .
من قتل المرحوم محمد ولد المشظوفي ؟
هناك ثلاث روايات لسبب وفاة المعني مازال الإختلاف عليها قائما حتى الساعة ، الأولى ( الرواية الرسمية ) تقول بأن المعني اختنق بسبب دخان وغاز مسيلات الدموع ، وهي ورواية رفضتها أسرة المعني وعمال الشركة منذ اللحظة الأولى وحتى اليوم ، أما الرواية الثانية فتقول بأن المعني قتلته أحذية أفراد الحرس بالدوس عليه وضربه بها في صندوق السيارة ، أما الرواية الثالثة فترى بأن بيئة عمل المعني هي المسؤولة عن وفاته وبأن مسيلات الدموع وأحذية الحرس كانت فقط قطرة الماء التي أفاضت الكأس .
ستقدم الحكومة تعازيها للأسرة وستعرض عليها مبلغا ماليا ( الدية ) وستتعهد الشركة بتشغيل فردين من العائلة ( كان المعني هو المعيل الوحيد لأسرته ) ولكنها لن تفي بوعدها حتى اليوم ، بل حصل العكس حيث فصلت من العمل أقارب له أصروا على معرفة حقيقة ما حصل لابن عمهم وخاصة نشطون منهم في النقابة كالمندوب النقابي عثمان ولد اكريفيت ( الذي يتحدث في المقطع أمام العمال ) .
لن تدفع الشركة أيضا أية تعويضات لأسرة الفقيد ، وكل ما قامت به في هذا المجال هو إرسال مستحقاته المالية عليها إلى حسابه البنكي، وباشر البنك باقتطاع دين له على المعني والقليل المتبقى سلمه لأحد أفراد العائلة .
الرواية التي تقول بأن المعني سبب وفاته هي بيئة عمله ، لم تأتي من فراغ ، فالمدينة صارت في السنوات الأخيرة مدينة أشباح فر العديد من أهلها منها هربا من شبح الموت الذي يلف المدينة وما جاورها ، فقد سجلت كثير حالات وفيات وأمراض مزمنة ، ناهيك عن نفوق مئات الحيوانات وموت للأرض تدركه العين المجردة ، فكيف ولماذا يحصد الأجنبي بهذه الولاية نحاسا وذهبا مخلفا بعد ذلك أرضا هامدة لا حياة فيها ، ويجني ملاك الأرض منها مرضا عضالا وموتا ؟ لنحكي القصة ونبدأها من البداية ...
البداية ...
يقول الأب المختار ولد داداه في مذكراته :
" ... وقررنا انتهاج سياسة التقشف والإستقلال المالي وفي الأخير تم يوم 27 يونيو 1964 تكوين شركة جديدة في انواكشوط هي ميكيما لاستغلال نحاس اكجوجت ، ويتوزع رأس مال هذه الشركة على ثلاث حصص : 55 % منها للأمريكيين والكنديين و 25 % للموريتانيين و 20 % للفرنسيين وغيرهم من الأجانب ، وعمت الفرحة الغامرة أهالي اينشيري والحكومة ، حيث جسدت انطلاقة المشروع أمل هؤلاء في أن يروا مناجم نحاس اكجوجت تستغل ، وبالفعل فإن الحصول على الإستثمارات الضرورية لم يكن سهلا نظرا لأن مردودية المشروع كانت في مستوياتها الدنيا وهكذا ظل الممولون مترددين رغم إلحاحنا عليهم ، فالإمتيازات التي منحها لهم النظام الضريبي لفترة طويلة لم تكن كافية للإسراع بعملية تجميع رؤوس الأموال ، ولكن المشروع في نهاية المطاف قد تحقق وإن كان الأمر قد تطلب مفاوضات طويلة وجادة مع المستثمرين الأجانب من كنديين وانجليز وفرنسيين بالإضافة إلى البنك الدولي والبنك الأوروبي للإستثمار* ، حيث توصلنا في شهر نوفمبر 1966 إلى اتفاق يسمح بإنشاء شركة معادن موريتانيا ( سوميما ) التي ستتولى استغلال منجم النحاس في اكجوجت ، وتوزع رأسمال تلك الشركة في النهاية على النحو التالي :
- شارتر كونصوليداتد المحدودة الإنجليزية 44,6 %
- الجمهورية الإسلامية الموريتانية 22 %
- الشركة المالية العالمية ( فرع البنك الدولي ) 15 %
أما باقي رأس المال فكان من نصيب مساهمين فرنسيين من بينهم مكتب البحوث الجولوجية والمعدنية ، وكانت الدولة الموريتانية ممثلة بثلاثة أعضاء في مجلس الإدارة المكون من إثنى عشر عضوا ، ومع أنها لم تكن المساهم الذي يتمتع بالأغلبية ، فقد أسندت إليها رئاسة مجلس الإدارة ، وهو تنازل كبير قدمه شركاؤنا ذوو الأغلبية ويصعب قبوله في النظام الإقتصادي الليبرالي ، وقد تولى محمد با رئاسة هذا المجلس ، وكان الأمر بالنسبة لنا بداية لسيطرتنا على ثرواتنا المعدنية ، وقد دشنت منشآت تلك الشركة يوم 23 مايو 1968 ، وبدأ إنتاج النحاس المركز في سنة 1971 بما مجموعه 7.650 طنا ليصل سنة 1973 إلى أعلى رقم سجله وهو 33.450 طنا قبل أن يهبط إلى 22.456 طنا خلال سنة 1977 ، ولقد اضطررنا في شهر مايو 1978 إلى وقف الإنتاج الذي أصبح مجرد خسارة تثقل كاهل الشركة الوطنية للصناعة والمناجم التي تحملت ديون سوميما "
* قدم لنا البنك الأوروبي للإستثمار قرضا بقيمة 2.750 مليون فرنك غرب إفريقي مدته إحدى عشر سنة ونصف السنة ، في حين منحتنا الشركة المالية العالمية 4.150 مليونا لمدة إثنى عشر سنة ولكن بمعدل فوائد أكثر قليلا