
بنشاب : قبل ما يزيد على الشهر قليلاً، زُرتُ شركة الكُتب الإسلامية في مقرها الجديد بالعاصمة نواكشوط، حيث التقيت عند بابها بالدكتور والأستاذ والباحث الشهير : محمد المختار بن السعد، كان هذا أول لقاء مباشر مع هذه الشخصية الثقافية البارزة بعد عدة لقاءات غير مباشرة تمت من خلال مطالعة مجموعة من أعماله الرصينة مثل “الفتاوي والتاريخ” والقضاء في موريتانيا”، و”الإمارات و”المجال الأميري ، اترارزة في القرنَين الثامن عشر والتاسع عشر نموذجاً”، إن كنت أتذكر العناوين جيداً …
بعد تبادل التحية والسلام، أهداني الدكتور نسخةً مِن كتابه الجديد “نوازل الشاي في موريتانيا:، الذي تناول فيه – كما تشير إليه بقية عنوان الكتاب – “كيف تعامل الفقهاء الشناقطة من الوافد الجديد” وقتَها …
وفي الحقيقة، وبحكم ما أسلفتُ مِن الألفة التي حصلت لي مع أعمال المؤلف، كان غيري لِينبهر بما في الكتاب من عالَمية الألفاظ وتدفق الأسلوب وأناقة العبارات …
صدر هذا الكتاب الأنيقُ عن “دار الإسراء” الموريتانية في ما يزيد على ثلاثمائة صفحة، تضمنت مقدمة ثرية، تناول فيها المؤلف نشأة الشاي ومسار انتشاره العام في المنطقة والملامح العامة لطبيعة النقاش الفقهي حوله، وقد تخللتها نصوص شعرية جميلة معدودة في أدب الشاي عند الموريتانيين، ذلك الأدب الظريف الذي تناوله المرحوم عبد الله بن بابكر في بحثه المتأني النفيس المُعنوَن ب”الأتاي والدخان في موريتانيا، مدخل تاريخي وأدبي”.
بعد المقدمة، أورَد الدكتور – مع التحقيق اللائقْ والتخريج الرائقْ – نيفا وعشرين مكتوباً فقهياً حول الشاي، لعُلماء من مختلف مناطق البلاد، مِنهم محمد يحيى الولاتي في أقصى الشرق ومحمد العاقب بن ما يابَ الجكني وإبراهيم (إبَّاهْ) بن أمانة الله اللمتوني في الوسط، وعددٌ مِن علماء قبيلة “تندغَه” في أقصى الجنوب الغربي …
مِن بين تلك النصوص المُفعمة بالمادة الفقهية والأصولية والمنطقية، استوقفتني فتوى للعلامة القاضي محمد بن أمينو بن الفرَّا بن المازرِي التندغي الشُكاني، وهي فتوَى مُوجزة تلوح عليها مخايل الوسطية والإنصاف، وحسبُك بهما ميزتَين. يقول محمد في مكتوبه هذا :
(( الحمد لله، وبعد فإن الذي عندي في شأن حكم الأتاي الحِليةُ الأصليةُ قبل حصول عارض يتطرق به التحريم مِن إضاعة المال فيه، ومِن كونه يُورث المرض لبعض الأبدان، ومِن كونه ربما كان سبباً لتأخير الصلاة بالاشتغال فيه، إلى غير ذلك مِن العوارض المُحرمة، فإن سلِم مِن عارض يأتيه منه المنع كان مباحاً، وإن اتصف بما كان يقتضي تحريمه حرُم، وما بالعارضِ غيرُ ما بالذات)). كتبه/ محمد بن أمينو.
لم يشذ عن قاعدة هذا المكتوب، مكتوبُ آخر له، كثيرا ما أمر عليه أثناء تقليب المجامع، سرد فيه بأسلوب متدفق جميل سلسلة التهذيبات التي أوصلت من “مدونة سحنون” إلى مختصر “الشيخ خليل” ابتداءً بتهذيب البرادعي فابن بشير ثم ابن شاس وابن الحاجب، كان ذلك في خضم كلامه حينها عن المكانة التي يحتلها الشيخ خليل في مجال الفتوى في أرضنا هذه …
لقد جعلتني الفتوى نفسها أقف مع هذه الشخصية العلمية المتميزة، التي سمعتُ الحديث عنها مِن حولي مُبكرا، حيث كانت تربطها علاقات وطيدة بأفراد المُحيط عموماً، وبالأخص بِلمرابط امحمد بن أحمد يورَ الذي قال فيه بيتَيه الشهيرين :
لئِن هزُلَ الأعراضُ من علمائنا
فعَرضُ الفتى ابنِ المازري سمينُ
لقد حاولوا منه الخيانة جهدهمْ
ولكنما نجل الأمين أمين
أنشأ امحمد بيتَيه هذين بُعَيدَ قضية مُعينةٍ أبى القاضي محمد بن أمينُو إلا أن يحكم فيها بما رآهُ صواباً رغمَ الترهيب والترغيب …
تولَّى محمد بن أمينو قضاء إمارة اترارزة في عهد الأمير أحمد سالم “بَيَّادَ” بن إعلِي بن محمدْ لِحبيب وبعضٍ من عهد الأمير أحمد سالم بن إبراهيم السالم بن محمد لحبيب، وله تأليف مشهور في “شمائل أولاد أحمد بن دامان” يُقال إنه ألفه خوفاً على أخبارهم مِن الضياع بعد وفاة صديقه امحمدْ الذي كان مِن أوثق الشخصيات التي يُرجع إليها فيها …
ولِمحمد بن أمينُو تآليف عديدة أخرى، وبالجملة فهو من أكبر علماء القُطر الموريتاني وأكثرهم نوازلَ وفتاوي كما أشار له الدكتور محمد المختار في “وافده الجديد” …
وكان محمد وأخوه أحمدُّو فرسَي رهان في العلم والقضاء والفتوة، فقد ألف أحمدو في مختلف الفنون المحظرية كما ذكره العلامة المختار بن حامدن في جزء “تندغه” مِن موسوعته، كما تولى أحمدُّو بن أمينو بن الفرَّاء بدوره القضاء في السنغال، وبالتحديد في منطقة “كايُورْ” التي كانت تحت سلطان المُقاوم السنغالي الشهير : “لاديُور ْ ديُوبْ” آخر ملوكها …
ذلك كتابٌ قادَ للوقوف عند فتوى قادت للوقوف عند شخصية يُناسب بل يجب الوقوف عندها ….
رحمة الله على الجميع.
طاب مساؤكم.
عز الدين بن ڭرَّاي بن أحمد يورَ