بلاد بكت فيها المزن على براعم قضوا في غربتهم....

ثلاثاء, 18/06/2024 - 17:48

كانوا جماعة تشكّلت في الطريق ، البعض منهم تعارف عند مطار أم التونسي والبعض في مطار مدريد ، كانت الاحلام تصوغ رحلتهم و آمالهم مرهمات لآلامهم ، شباب في مقتبل العمر سيصنعون ثروة مالية وهم في ريعان شبابهم ، سيرون العمارات الشاهقة و المدائن الامريكية المعلقة في البرزخ ..

لم يصدق الصغير محمد نفسه أنه تجاوز جل عقبات الطريق و أنه سيركب البحر ..

قبل أن يركب القارب أخبر والدته عن هدوء البحر  وعن رفاقه الطيبين و عن الطائرة التي ستطير به من العاصمة الى تيخوانا ليتسلق الجدار ويقفز الى الجانب المُشرق -في نظره- ليجمع ثروة ويرجع اليها عريسا ينتشلها من الزمن و يصنع خيرا كثيرا في اهله و في كل الناس ..

كان البحر هادئا إلا من موجات صغيرة لم لتكن تعكر صفو البحار المكسيكي المتمرّس الذي يسافر في خليج المكسيك بين شبتولا و رقاب خوشيتان مذ نعومة أظافره.. 

همزَ البحّار موتور قاربه و انبرى يمخر عباب الخليج وتبتلعه الظلمات  مع محمد ورفاقه الموريتانيين جلهم و فيهم ثلة قليلة من الافارقة وبعض من اللاتينيين ،

 بدأ اللغط بمختلف اللهجات واللكنات يتجادل مع صوت المحرك و أصوات البحر وبعد دقائق استوى المركب و سكن الركاب و سكت الجميع شيئا فشيئا ساد الصمت  و بقي المحرّك يصارع الماء والحمولة ،
يجلس محمد الصغير في وسط القارب و يتكئ على عاتق صديقه أحمد و يقول له ليت أن في البحر شبكة لأطمئن الاهل عليّ ، يقول له أحمد ياليته ..
غير بعيد منهم صديقهم بلال يسرد معاناته مع شرطة المطارات و آخر يضيف بطولاته على بطولات بلال ، وغير بعيد منهم كان "آمادو باري"نائما و مستيقظا يتمنى أن يعود به الزمن إلى قرى فوتا ويشبع عينيه من بقرات أهله ومن الفلانيات مساء بكامل زينتهن يحملن المأونة على رؤوسهن وسط أغاني فوتا و مسابقات الاعياد و التباهي بضخامة الاضاحي.

كان محمد أيضا يفكر في العيد و ينتظر الوصول الى مكان الشبكة ليشاهد أجواء العيد عند عائلته على الواتساب ..

بدأت موجة عاتية تهز المركب لتوقظ الجميع وتقطع على آمادو باري أحلام فوتا و تشغل الصغير محمد عن التفكير في مدن أمريكا و في عيد اهله .. بدأ البحار يتمتم بكلمات لم يفهم منها إلا أنها صلاة ل"سانتا ماريا"  وكان اللاتينيون من الاكوادور و فنزويلا يستغيثون به و يصرخون بالاسبانية ،

 كانت كلماتهم مفهومة جدا لمن لا يتكلم الاسبانية فقد اجتمع الجميع على لغة الجزع و الاستغاثة والتضرع و كانت مخيلات الجميع تدور بين الماضي و في تخيل عمق البحر وظلماته .. في وسط البحر تجمد الصغير محمد من خوفه و علقت صورة امه الباكية في ذهنه وعرف أنه سيرتقي فتشبث بيد أحمد هو الصامت أيضا وبلال يقول لهم موجة و تعدي على خير ، كان خالي بحارا و حدثني عن هيجان البحر و غضب الاعماق .. شابّ غريب في مقدمة المركب يقول لهم الشباب ، شهدوا شهدوا ، البحر عالٍ و الموج يتلقف الراكب كلعبة في يد صغير يوم العيد ، يعبث بها كما يشاء ..

كان البحر باردا و محمد صغيرا جدا و بلال استسلم و أمسك بيدِ زملائه و بدأ الموج يلطم وجوههم وبدأت عيدان المركب تتفكك خشبة خشبة وبدأ الركاب كلهم يغرق على جهة وضع صغيري محمد هاتفه في جيبه على أمل أن تصله صور العيد من والدته ، و اختفى في ميّاه خليج المكسيك واختفى معه رفاقه ، كانت اياديهم متشابكة لفترة طويلة ، وغرقت معهم أحلام الشباب و غرقت معهم مدائن أمريكا المعلقة في البرزخ ..
غرقوا في الدموع المالحة وفي متاهات الثكالى و في اختناقات الاخوات .. وغرق الزورق المصنوع من أحلام الشباب بالكامل ..

غرق شباب الوطن في خليج المكسيك ومات فيه محمد و أحمد وبلال ماتوا  وبعد لم تصلهم صور العيد ولم تطر بمحمد الطائرة التي كان يحدث عنها أمه ولم يرَ أمريكا ..

 غرقوا و غرق الرمز في غيه و في بسط الرزق لكهول يضمنون له الرفاه و السلطة ، يضمنون له قاعَ النزوات و تلبية الرغبات وارتجاف الشفاه أمام سحر الحسان ، و مكّن لهم من سحرته من يسحر الناس و يخدر عقلاءهم..

في بلاد محمد (18سنة) و أحمد وبلال حرم الناس الاسوياء مذ قديم الزمان من الارزاق و من لم يغرق في ابتذال ماء وجهه غرق في خليج المكسيك أو أكلته أعماق متاهات الغربة..
مات محمد ذو الثمانية عشر عاما و مات بلال وماتوا كلهم و من وصل أمريكا منهم ماتَ كمدا ومنهم من مات مقتولا بالرصاص ومنهم من يهدد كل يوم و منهم من ضاع في خيالات الكأس و أكاذيب المخد.رات ومنهم من ينتظر ويطارد أحلاما وعودة قدلاتكون .. ومنهم من انسلخ من ذاته ودينه  و أبدل أهلا بغير أهله و أقسم أن لا يعود لتلك البلاد، 

بلادٌ بكت فيها المزن على براعم قضوا في غربتهم وما بكى أهلها و ما صنعوا حدادا ولا أبدوا أسفا ، بل اعتلى صناديق نعوشهم ليلقي خطابا عن النماء والازدهار وتمكين الشباب .. علت الزغاريد ممتزجة بسكرات أرواح الشباب وصفق الجميع كما صفق شهداء خليج المكسيك في الاعماق بحثا عن ذرة من النفس .. 

رحم الله الشباب ، رحم الله محمد ورفاقه وجعلهم من نزلاء الفردوس حيث المستقبل الذي ينقطع ، حيث يتقبل الله الشهداء والذين أحسنوا عملا ، و أن يجعل الله لمحمد ،
محمد ذو الثمانية عشر من عمره أنسا للوحشة يعوض ريعان شبابه .

اللهم اربط على قلوب ذويهم وعلى قلوبنا .

منقول من ص  / باركللا الشريف الشريف