وقفت للتدريس بفائق الاجتهاد والتفاني في رحلة دامت ثلاثة عقود ونصف، وشهدت ذلك التحول والتراجع في ميدان التهذيب، سواء في تراجع المستوى العلمي، أو في انهيار القيم والأخلاق، أو حتى في أداء الطواقم التربوية والإدارية.
وكنت رأيت بوادر ذلك تلوح متسارعة، يوم أدركت أن تغيرا جذريا في السلوك العام، أضحى يفرض نفسه على المشهد في كل أبعاده.
بدا الأمر بسيطا وغير لافت للانتباه، إنه مجرد تبديل وترتيب لأماكن أشخاص!
فالذين كانوا يقبعو في الوراء خجلا من الصفوف الأمامية، قطعوا الرقاب، ليتخذوا أماكنهم في المقدمة، دون خجل أو حياء، لا يعبأون بما يترتب على ذلك من ثمن الريادة والاستحقاق!... فتصدر المشهدَ هؤلاء الذين كانوا هم أراذل الفصول، بكل جراءة وافتخار، وأصبحت تلك سمة سائدة: الأراذل والسفهاء والمحبطون، هم الذين يتصدرون المشهد!...
هذا الترتيب الذي حدث بشكل عفوي في القسم، ألقى بظلاله وأغلاله على جميع مرتكزات الدولة ومؤسساتها الحيوية، فتصدر المشهد الذين هم أراذلنا، زادهم رصيد لا ينفد ولا يغور: الكلام وتصنيع الكلام وتفعيله!... لا يلقون بالا للكذب ولا للتناقض في الأقوال، ولا للدناءة ولا الرذالة في الأفعال، محرزون ومعقمون ومحصنون ضد المؤثرات الجيو إيجابية، وموغلون في السلبيات لا تأخذهم فيها لومة لائم!...تغلقت منافذ الوعظ والإرشاد في بنائهم الجسدي والمعنوي، وتمادوا في ذلك يعمهون في غي يتوالد سريعا كالفيروسات المخبرية.
يسرقون، ويكذبون، ويخون، ويأكلون المال العام، ويفسدون، ويعطلون كل تغيير بناء، لأنهم لا يعيشون في الأجواء السليمة ولا يرجون إصلاحا ولا إرشادا.
هؤلاء السفلة الألقاط، الذين هم أراذلنا، يتصدرون المشهد، في التعليم وفي الصحة، وفي القضاء وفي المحاماة، وفي المالية والحسابات، وفي كل شيء!...
استطاعوا أن يحولوا شرف المهنة وسموَها، إلى مهانة، يتجرعها بمرارة وعلقم، من آمن بالمهنة شرفا وعزة، تتكافأ مع أهدافها وغاياتها ... لا أذكر اسما، فالأسماء كثيرة، ولا أقدم صورة، فالصور ناطقة، ولكن أقول بمنتهى الحسرة والأسى: حسبنا الله ونعم الوكيل، ولا حول ولا قوة إلا بالله ...