رسالة إلى الشيخ الحاج "المشري" حفظه الله ورعاه:  حَوْلَ تَسْوِيَّةِ الصُّفوفِ الاجتماعية..

ثلاثاء, 23/11/2021 - 12:53

بنشاب: بعد السلام والتحية وما يليق بمقامكم من تبجيل،

لن أقول: لقد أخطأتَ المقال، بل أقولُ: كانَ في الإمكانِ أفضل مما كان مما سطَّرتموه فيما يتعلق بالحديث الأخير عن الشرائح الاجتماعية.

لقد جئْتَ للتطبيبِ فإذا بك تفقأ العيون. وعيون العرب هي الأجمل، تماما كعيون الأرض، أَلَمْ ترى إلى الأدب العربي، قديمه وحديثه، يركز على جمال تلك العيون السوداء، الدعجاء، الحوراء... لست أعرفُ أنّ عيون الماء تنبع إلا من الأرض (وفجَّرنا الأرض عيونا) (اضرب بعصاك الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عينا). 

أعتقدُ أن الحجر لا يُسمّى حجرا إلا إذا انفصل عن الجبل وإلا فهو مجرد صخرة في جبل. وإذا كانت العيون "تقطر من الجبل" فليس ذلك حسب فهمي المتواضع هو الأصل.

 قبل أن يتسلق البشر الأوائل الجبلَ مشوا على الأرض.

كثيرةٌ هي "مناقب العرب" وكثيرة هي "مثالب العرب". وكان يُمكنكم التعبير عن "شيم الزوايا" دون الغفلة عن "محاسن العرب": تستطيعون أن تمدحوا الرسول دون أن تسبوا حليمة.

إن التصنيفات التي ذهبتَ إليها هي تصنيفات لا واعية، تصنيفات ايديولوجية لا ترى "لعرب" إلا من زاوية الرؤية التي يعتنقها عديد من الزوايا، تلك الرؤية التي تُعَرِّفُ العرب انطلاقا من "التغلب".

 إنَّ تَغَلُّبَ الكتابِ كان أقوى من تَغَلُّبِ الرِّكابِ في بلاد السيبة الدينية قبل أن تكون بلاد السيبة الأمنية، ولذلك كان الناس أحوَج إلى سلاح الباطنِ من سلاح الظاهر. إن "الرصاصةَ" تقتل شخصاً، لكن "التميمة" تقتل جماعة. الرصاصةُ تأتي بلحم غزال لكن التميمة تأتي بكل اللحم الذي جمعه الصيادون". 

لقد تَغَلَّبَ الزوايا في الانتهاء، وظهر أنهم إذا كانوا خسروا معركةً في "ِترْتِلَّاْس" فلقد انتصروا في الحرب ككل. 

قال الفيلسوف السياسي" محمد يحظيه ولد ابريد الليل" في اطروحته حول "غزي الأركاب، غزي لركاب" إنَّ بعض الهزائم قد تتحول إلى انتصارات كبيرة على المدى الطويل. وهذا النصر ما تَمَّ للزوايا في نهاية المطاف.

 إنَّ رؤية المسيطِر تَحْجُبُ عنه واقع الخاضعين.ورؤيتُهم لمثالبه التي لا يمكن أن يراها لشدة قربها منه تحجب عنهم ميزاته الحسنة، والنفس الشيء عكسا، فمثالب التابعِ لم يرها القائد إلا لأنه يتموقع على مسافة كافية للنظر إليها.

 إنَّ ما ذهبتَ إليه لا يعدو كونه زاويةَ "رؤيةٍ زاويةٍ" لتصنيف "العرب"؛ تصنيفٌ طالما أريدَ له التَّصفيف.
 إن المصفوفات الرياضية خاضعة لمبدأ "العلمية" لأنها مصفوفات واقعة على مستوى الدماغ البشري قبل وجودها في معادلاتٍ رياضية، وبها استطاع البشر أن يتقدم خطوة في "تطوره". 
المصفوفات الرياضية خاضعة للعلمية، أما المصفوفات "الزاوية" فخاضعة للإيديولوجية. 

كان الأوْلى بنا التَّشبث في التصفيف بميراث الرسول صل الله عليه وسلم في تسوية الصفوف مثلا: "ألا تَصُفُّونَ كما تَصُفُّ الملائكةُ عندَ ربِّها"، "حاذوا بين المناكب والأقدام"، "سووا صفوفكم"... إلخ. 

إنَّ التصفيف الاجتماعي يجب أن ينبع دائما من التصفيف الديني وليس من المقولات التي حاوَلْتُمْ ـ جزاكم الله خيرا ـ تَعْريَّتَها في مقالكم فإذا بكم تقومون بها من جديد.

إن تسوية الصفوف الاجتماعية اليوم تحتاج كثيرَ مهارةٍ ودراية: مهارة في مبادئ التصنيف، ودراية بحقيقة "الوصم الاجتماعي" المتبادل بين الفصائل الموريتانية.

 لكل فصيلة اجتماعية ما تذم به الفصائل الأخرى أو تمدحها به. وليستِ الحكمةُ أنْ نُعْلِنَ تصنيفَ بعضها بأفضل ما فيه وتصنيف البعض الآخر بأسوأ ما فيه. 

ليس عدلا أن نُصَنف الزوايا بالإيجاب ونصف العرب ب"السلب". 

إذا كان بعض العرب قد لجأ أحيانا إلى "العنف" فذلك لجوءٌ فرضَتْهُ نفس الظروف التي فرضت لجوء الزوايا إليه مثلاً في حروب قبائلهم بعضها ضد بعض. لذلك، فهو لجوءٌ شمل الجميع في مراحل تاريخية من حياة مجتمعنا وليس انصافاً لَصْقُه بفصيل واحد من المجتمع.
 إذا كان بعض العرب قد لجأ إلى "العنف" فإن بعضهم الآخر لجأ إلى بعض  أهم الممدوحات في الشريعة الإسلامية "سلامة القلب، بياض النية، حب الخير للناس، إكرام الضيف، الحمية والانتصار للضعيف... إلخ".
هذه خصالٌ كان الأوْلى بكم أن تضعونها كمعيار لتصنيف العرب بدلاً من المعيار الذي ذهبتم إليه.

أما عن قولك إن من أراد أن يعيب "الزاوي" فإنه يتهمه بأنه من علماء السلطان، فهو قول يصح بعضه، ولكنه قولٌ يتغافل عن العيوب الاجتماعية التقليدية التي تطلقها الفصائل الأخرى عندما تريد التنقيص من هذا الفصيل. لذلك فكما عرَّفتَ "العرْبي" بأشنع ما فيهِ كانِ الأجدر أنْ تفعل نفس الشيء مع الزاوي. لا أحتاج هنا لذكر علامات الوصم تلك، لكنك عندما تسأل أي "عرْبي" يمر بك فيمكنه أن يزِنَ لك أو يكيل أو يقيس، حسب رغبتك في المعيار. 

وأُنَبِّهُ هنا أنه ليس كل "زاوي" طالب علم، على عكس ما ذهبتم إليه، كما أنه ليس كل "عربي" شخص متغلب. إن الأمر أكثر من أن يحصى عن حالات الاختلاط التي "يتعرب" فيها "الزاوي" و"يستزوي" فيها "العرْبي".

أما عن قولك بخصوص تكفير "حسّان" الذي ذهب إليه بعض الفقهاء "الزَّاوين" فيشكر لك جدا محاولة إيجاد مخرج بالقول إنَّ أولئك الفقهاء كانوا يَعْنُونَ فقط أمراء "الجور" من حسان؛ لكن الحقيقة التي نعرفها أن تلك الفتاوى التي لا تزال إلى اليوم مبثوثة في الكتب ويتم تدريس أغلبها شفاهةً للأطفال في طور التنشئة هي فتاوى تتناول حسان ككل، بل إن بعضها ـ عكس ما ذهبتم إليه ـ يستثني فقط من تكفير حسان بعض الأمراء العادلين ك"أحمد بن امحمد" صاحب "العافية الشهيرة". 

إن "حسان" ليسوا "مستغرقي ذمم"، ولا هُم "كفار"، ولا هم "قَتَلَة"، ولاهم "مغتصبون"، ولا هم "متغلبون". إنما مَثلَهُم كمَثَلِكُم تماما، ليسوا سواء، منهم الصالح ومنهم طرائقَ دون ذلك.

مع حفظ كامل الاحترام وتبجيل الألقاب لكم أقول: إن المقارنة التي قمتم بها فيما يتعلق بنسب العربي والزاوي لا يستقيم من أوجه عديدة سأكتفي هنا بواحد منها ـ ولَعَلُّه وجهٌ كاشفٌ عن قَسَماتِه:
 إن "عَرْبي" في موريتانيا نسبٌ قبل أن يكون أي شيء آخر، فأغلب "لعْرب" اليوم في ينتمون للعرب نسبا وليس الأمر مجرد توجُّهٍ معين كما ذهبتم، ولا ينطبق الأمر على الزوايا لأن "زاوي" بالتأكيد ليستْ نسبا، ولذلك أردتُ تنبيهكم لهذه النقطة التي لا شك أنها لا تغيب عن علمكم الشريف.

 إنَّ لكل علم مختصون، والمجتمع له مختصون درسوا سنين طويلة في مباحثه (أنثروبولوجيا، سوسيولوجيا)، كما أن للفقه مختصون وللنحو مثل ذلك، ولباقي فروع العلوم. لذلك فربما ـ وخاصةً في زمن "السوشال ميديا" ـ يجرح أحدنا إخوانه في المجتمع عن غير قصد في الوقت الذي يريد فيه التَّرْبيتَ عليهم.

 إن "التربيتَ" في بعض الأوقات يتحول إلى ضرْب. 

إن احترام التخصص منجاةٌ من المزالق، وخاصة المزالق الاجتماعية لأن أرضها زلِقة أكثر من غيرها، ولأنَّ السقوط فيها يكون على الرأس، وكسورُ العظامِ فيها تكون أشنع، و"العظامُ" عندما تكثر تكون نسبة الكسور فيها أعلى.

مرة أخرى، لقد جئْتَ للتطبيبِ فإذا بك تفقأ العين. 
لقد كانت الفيزياء في العصور التي سبقت "نيوتن" تعتبر أن "الحجر" من أصلٍ ترابي، وبذلك كانت تُفَسِّرُ سبب ارتداد وعودة الحجر المقذوف إلى الأرض، لقد قالوا إن سبب ذلك هو أن الحجر "يَحِنُّ دائما إلى أصله". لقد أَراهُم "نيوتن" أنّ أصل الحجر ليس ترابيا وأن عودته إلى الأرض هي بسبب "الجاذبية". 
وكما تجذب الأرضُ الحجرَ فقد جَذَبَ العربُ الناس منذ زمن بعيدٍ فكانت "قريش" مركز جذب البشر وبسببٍ كذلك من مركزية الحجر (حجر الكعبة). 
يمكن أن نَتَجَوَّزَ ونقول: "إن الحجرَ أصلُ العربِ"، لذلك أقاموا له اعتبارا كبيرا ورفعوه إلى مرتبة العبادة (عبادة الأصنام) ولم تُطاوِعهم أنفسهم أن يبنوا منه مساكنهم فاستعاضوا ب"الخيام"، والخيام سريعة الاشتعال إذا هبت الريح، والمثل العربي الحسّاني الموريتاني يقول إن الحجر إذا خرج من يد صاحبه فلا سبيل له في التحكم فيه. ويقول مثل آخر ـ ربما ليس من أمثلةِ حسان ـ "وَيْلٌ لِمن سَقط على حَجَرٍ، وَوَيْلٌ لِمَنْ سقط عليه حَجَر".

في الختام، سلام تام علينا وعليكم وطبتم وطاب سعيكم وممشاكم.