بنشاب: كان يوما غائما من أيام سانتياغو حين اتصل كاتب "انرينكي" مدير الديوان على الصحافي الثرثار "ريكو بالفيردي" ليخبره بأن طلب المقابلة مع بينوشييه تم قبوله..كانت مفاجأة كبيرة، وفرحة أكبر، فهو الآن سيلتقي اوغيستو بينوشييه في ثاني لقاء له مع رئيس لتشيلي بعد لقائه مع سالفادور ايليندي الرجل الفظ الذي اتحدت جميع قوى البلاد لاذلاله والانتقام منه عبر كتيبة برلمانية كان أفرادها يعبدونه ويقمعون بألسنتهم معارضيه ومن لايحبونه..لقاء ثان قد يكون مهما في حياة الصحافي..جاء القبول و"ريكو" في جلسة مع نيرودا شاعر الشعب في صفيحية "لابيانتانا"..التفت الصحافي الى الشاعر: بابلو، هل ترسل معي رسالة لبينوشييه؟
لا ..لا..لاشيئ يهم، فقط قل له بأننا بحاجة لمطبعة محترمة تطبع تنشر أشعارنا ورؤانا.
-هههه ..هل تعتقد انه من الغباء بحيث يوفر لكم مقصلة لتقطعوا رأسه فيها..الديكتاتوريات تكره النشر والنثر والنصر والشعر وكل الأوزان المرادفة .
بسرعة تخطى "ريكو" جميع الحواجز التي فرضها الجنرال مندوزا لحماية مواطنيه من الجدري، وكأن الجدري لايتجول الا ليلا..وجد نفسه في ابروفيدانثيا الجمال والأنوار والأمن وروائح العطور الزكية، فهناك صديق له لديه بدلات وأقمصة وعطور، اذ يعمل في فرع العلاقات الاجتماعية بالحزب الحاكم، كما انه من المتعبدين الدائمين بكنيسة الحي الأرقى في سانتياغو..حصل منه على مبتغاه...بات ليله في كوابيس تتقاذفه ولم يغمض له جفن.
توجه مع اشراقة الشمس الى "قصر النقود"(قصر الرئاسة باتشيلي) كان الجندي الذي أشار عليه بالتوقف يسير بخطى متثاقلة وكأنه استيقظ للتو.
-من أنت؟
'انا ريكو فالفيردي..نظر مليا وتهجى عشرين اسما قبل أن يشير الى الباحة..مر من هذا الفضاء وستجد في آخره من يرافقك..
تقدم خطوات على نفس الساحة الجرداء التي خرج منها ذات ضحى ايليندي وبينوشييه ومندوزا وكريوكا وغيرهم من قادة المجلس العسكري. يومها كانوا طيبين وأجسامهم لم تترهل، ويتهجون الاسبانية بصعوبة وهم يخاطبون الشعب..بدا واضحا يومها ان ابينوشييه هو خلف ايليندي ،كما يبدو واضحا الآن ان مينديز بربوسا القادم من شرق اتشيلي هو الخليفة المرتقب، مالم يجد جديد، ولن يجد نظريا، فعائلةمينديز بربوسا تقريبا هي العائلة الأكثر تمثيلا في قيادات الجيش..لهذا فمنديز بخير ويحصل على نصيبه من المعادن وغيرها ولايمكن لبينوشييه خيانته..افاق ريكو على جلبة ضباط يتسابقون كالصبية في الساحة ويدخنون السجائر ويتراشقون بالقبعات والخوذ...رباه ، كم تشبه هذه الوجوه وجوها أعرفها..حين لاحظوا تقدم المدني الغريب تصنعوا الاحترام وسألوه عن اسمه، وهنا عرف من اسمائمهم المطرزة على بزاتهم بأنهم أبناء قادة المجلس، فقد تخرجوا ضباطا قبل أيام،وهم هنا في تربص على حراسة القصر وحمايته..يتفقدون الأقبية، ويغازلون الكاتبات بوقاحة، وبين هذا وذاك يبتزون صغار الموظفين ويصفون مع الوزراء حسابات لهم مع أبنائهم ،وهي في أغلب الأحوال حسابات قادمة من سوح السياقة المجنونة وملاهي ابروفيدانثيا الليلية..مشاكل نخبة وطبقة لاتعني ريكو نظريا لكنه الفضول حتى في التفكير.
ابن مندوزا، ابن بربوسا، ابن غوميز البشع البدين..انهم حكام المستقبل وسادة البلاد، ومن سيسوسون ابن ريكو الطالب في ثانوية القس ماريوت بلابيانتانا..تلك الثانوية البائسة التي لاتعلم اي شيئ..يحلم ريكو في هذه اللحظات بأن يكون رئيسا ليطرد جميع هؤلاء قبل ارسالهم الى الاصلاحيات..لكن ليس في البلاد اصلاحيات..ثم كيف سيطردهم لو أصبح رئيسا..لوطردهم لطردوه..تذكر مأساة البلاد مع طيب الذكر الأسبق والد الوزيرة الطيبة هي الأخرى..من غربل القادة نخلوه.
وجد نفسه بعد دقائق من التفكير يتزحلق ثم يزلق بدون ارادته على رخامة كبيرة تنتهي به الى رفس الباب ليسقط عند قدمين مغبرتين..حذاء من هذا؟ ..رفع عينيه متتبعا طيات السروال، ليتفاجأ بأنه أمام مدير الديوان "انرينكي" الرجل الذي يرى الجميع بأنه الحاكم الفعلي لتشيلي..قم، مرحبا يبدو انك لم تتعلم بعد كيف تتأقلم مع البلاط..صحيح..صحيح..فالطابور في البلاط طويل جدا،والسير فيه علم في حد ذاته.
أجلسه الى جانب مجموعة من الوجهاء الظاهر من حالهم بأنهم يحضرون مع مدير الديوان نشاطا جهويا لم يتمكن ريكو من ادراكه، وان حاول ذلك جاهدا بامعان النظر في الملفات التي بحوزة كل واحد منهم: سيذهبون بك مباشرة الى السكن فالرئيس قرر استضافتك في مضافته الخاصة، ولهذا سيصطحبك الأخ، وأشار بهزة رأس هندية الى أحدهم ثم أضاف :ريكو، لم أتحدث معك عن الواجب ومايليق، اذ سألت عنك فوجدت انك من بلدة من بلدات "نُساك يسوعا" ونحن وهم اخوة في المحبة الصادقة..اذهب بوركت..كم هو لطيف وطيب هذا الرجل ..يبدو ان مدير وكالة الأنباء ليس كاذبا..بدون مقدمات وجد "ريكو" نفسه وجها لوجه مع "اوغيستو ابينوشييه"..ازدرد ريقه ولم يستطع تقديم التحية..فمد اليه اوغيستو يده قائلا: أهلا..في هذه الحالة بالذات لا أخاف انتقال الجدري، فأنت سليل نُساك يسوعا..كم أحبكم..ثم قبل رأس ريكو اليساري تبركا حتى أصيب بالدوار والارتباك ومد يده مشيرا..فاذا لوتشيا ترفل في فستان من حرير أحمر وتمشي مختالة باتجاههما.
-تعالي عزيزتي، وسلمي على خالك، فجده بنيامين أحد الحواريين، وهو شقيق جدك بطرس..ابتسمت لوتشيا :مرحبا بقريبي اللطيف حقا، أن أقرأ له باستمرار،كان كلامه منطقيا قبل أعوام لكنه لم يعد للأسف..ألم تلاحظ اوغيستو بأن بدلته تشبه الى حد التماهي بدلة كنتَ قد أعطيتها ذات يوم لأحد الناشطين في الحملة الانتخابية..هل تذكرها؟ تلك التي أخذتها من سلفادور بعد عودته من اوروبا قبل تعرضه للطلق الناري..!
أرتبك "ريكو" قليلا تماما كما تلعثم اوغيستو وهو يشير اليه بالجلوس: كما تعلم لقد قررنا ان نخص صحافتنا بمقابلاتنا المهمة بدل تقديم خدمة مجانية للأجانب..ولهذا...يتواصل