أيديولوجيا القرية...

خميس, 29/07/2021 - 09:52

بنشاب: قدر لي وأنا المولود في العاصمة انواكشوط أن أرحل في سن السادسة الى القرية،لم يكن ذلك خياري ولن أتخذه اليوم في حق من يمكنني ارساله من عدمه،ليس ذلك بسبب ان القرية سيئة، ولكن لأنني عشت سنوات حزن لا أعرف ليلها من نهارها.
أذكر اختفاء أشيائي انواكشوطية بعد أيام،لقد انسلخت من جلدي بسرعة ،تاهت هويتي كلمح البصر..انها أشياء يحسها أطفال الآن في منافيهم ولايعبرون عنها..السلة الخيزارانية التى عبأها أبي بالسكاكر والمكسرات والشوكولاتات والياوورت وكلوغز (كان أبي يسمي كورن افلاكس كولوغز) وغيرها من الأغراض اختفت، اذ وزعتها جدتي رحمها الله على أصدقائي الجدد،"أقاربي الذين هم امتدادي ومن طينتي ومن دمي" كماتصفهم..انهم يختلفون تبعا لكلامها عن جيلاني سيللا واكنين وكازا وامهادي وأهل انواكشوط،انهم أبناء الصالحين،،يلبس أحدهم الدراعة تماما كالكبار،وتحتها سروال قصير ارتسمت عليه خرائط صنعتها مسارات التبول الليلي،لكنهم  رغم السن والتبول كبار ويتحدثون برطانة وعقيرة الكبار.
اختفت كرة المضرب التي جلبتها معي..بعد أيام رأيت الكبار يلعبون " انجولدت" بها وأذكر كيف تلقيت أول علقة بضربة من "عارف" الذي يكبرني بسنين، كان القروي يصفي حساباته مع " البورجوازي" المدني،(والدي معلم لكنه بورجوازي لأنه من انواكشوط)..بكيت كثيرا  وحين عدت الى بيت أقاربي حيث أقيم اعترضتني جدتي بخطابها الذي سيلازمني لسنين: انت المخطئ،الأطفال هنا طيبون وكل واحد منهم تلقى تربية ورثها من أسلافه الصالحين،علّقت المعلومة حلقة في أذني وفهمت منها بأنني الظالم دائما حتى وأنا مظلوم..
في المدرسة فاجأتني صورة الخميني معلقة على الجدار،قلت تلقائيا: اتفو.
قال لي المعلم: لماذا؟
قلت: لأنه الخميني
قال: هل تعرفه،قلت نعم
ثم أضفت من أغان تعلمتها من قيس جاري العراقي
"بابا جابلي هدية
دبابة وبندقية
راح انصير فالميدان
أطلب منك يارحمن
تنصر الغالي صدام
بهت الرجل: وماذا أيضا؟
غنيت أيضا:
عيشة عيشة عراقية
بنت القادسية
وواصلت مقلدا صدام من نص كتب على صورة جدارية  للرجل معلقة في بيتنا،(كانت تلك الصور الجدارية تقدم لنا مع كل خنشة تمر).
"اننا لانريد الحرب مع ايران ولكننا قررنا استرجاع كل نقطة أرض عراقية اغتصبها الفرس"،من كلام القائد صدام حسين.
وهنا تلقيت نقرة على الرأس من ذلك المدرس الغاضب،: تقهقر،اجلس هناك فأنت بعثي،جميع الأطفال رددوا: بعثي،بعثي.
أذكر كيف وكم كانوا يرددون الكلمة متى صادفوني في الأزقة،ولم أعرف معناها..لا أذكر ان كنت سألت عن ذلك،لكنني بعد أيام وباختصار لم أعد بعثيا،وصرت كأهل القرية ممجدا للخميني صاحب اللحية البيضاء،كنت أذهب مع الأطفال ليلا الى التلة الشمالية،حيث بعض الرجال يجلسون وبينهم ميكرفون يتبادلونه ويتحدثون،ويهتف لهم آخرون بالتكبير بعد التكبير.
لا أعرف ان كان من بينهم الزعيم الاخواني الراحل محمدي ولد خيري رحمه الله،لا أعرف لكنني أفترض ذلك الآن.
في الليل ننتشر في الأزقة ل " تغيير المناكر" نضرب ونطارد حلق الشبان والشابات ولنا الحق في ذلك، ولا أحد يلومنا..وفي المقابل ينشط بعض الوعاظ،ويتحدثون كثيرا عن النار والموت والآخرة ..حقا مازالت فرائصي ترتعد حين أتذكر سفراتي الليلية من غرب المدينة الى شرقها حيث المرابط محمدو رحمه الله، ولوحي الذي يكبرني بسنتيميترات..كنت أخاف ظلي والجان والأموات ،خاصة أنني فقدت أيامها صبيا كان صديقا لي يقولون جميعهم إنه مات،دفنوه،لم يعد له من أثر،ربما التهمته الغربان السود التي كانت تحوم حول التخوم والأحراش في انتظار الدابة التي ستنفق أو التائه العطشان،انه الجفاف والموت والحر والأرز والسردين وسفتي و،،آه من تلك الأشياء التي كانت ترعبني وتخيفني وتخلق مني انسانا يخاف من كل شيئ وبخاصة البرق والعقارب والسيارات.كان علي وأنا الطفل تقبل حقيقة اننا محفوفون بصحراء تبتلع الناس،وكنت ككل الساكنة أتلقى تلك الأخبار المرعبة من قبيل فلان تاه وعثر عليه الجمع ميتا على بعد كيلومتر او اثنين من القرية،مات عطشا،لم يستطع المواصلة،السيارة التي وصلت من رحلتها اليومية الى العاصمة عليها أن تبحث ليلا عن تائه آخر..هدأة الليل لايقطعها الا أصوات الصيحات القادمة من أوبرا " البريكة" أو البرميل فهناك يغني " السوادين"  المنهكون، ويرقصون،انه عالمهم الخاص،تسمعهم يرددون " كرموصة زينة،توكله امينه" دون أن تجد معنى عميقا وراء تلك الكلمات(حلوى لذيذة تأكلها امينة)،لايهم،فعلى الأقل ستشغل أذني صرخات لعبة شاة عن أزيز الرياح على الأسقف الصفيحية،ذلك الأزيز الذي طالما حرمني النوم وسلمني للكوابيس..من يطل من النافذة؟ لا أحد!!!بعد أشهر قليلة أصبحت واحدا منهم واندمجت..اعتقدت انني يتيم لفترة لا أستكنهها الآن،الى أن زارنا الوالد،كان حليقا وبذقن طويل،يجالسه رجلان من الحي يصغرانه كثيرا لكنهما يكرهان معه الخميني ويمجدان صدام والعرب..لاحظت انهم يدخلون في حوارات مع من يحضرون عادة "آطواجين"قريبتي مضيفة والدي الكريمة،ينتهي الطعام يختفي الجمع،غدا سيعودون بخمينياتهم ويعود والدي وصديقاه ببعثياتهم،وهكذا أنعم بأيام ثم يذهب الوالد ويتحلل طعم الشوكولا في فمي وأعود الى حياتي كقروي مع أناس يهتمون كثيرا للموت والآخرة ولايولون كبير اهتمام للأشياء التي تركتها في انواكشوط..
بعد ذلك وبعد سنوات في انواكشوط عدت الى قريتي فاذا الجميع يسبحون بحمد البعث وصدام وأم المعارك والثورة العربية..ثم بعد سنوات أخرى ظهر ملتحون يدينون باسلام ليس الذي عهدناه لكنهم لايمجدون الخميني،ثم جاء آخرون يحملون أفكارا مسلحة هذه المرة.وجاءت سنوات أخرى ليلتبس الأمر أيما التباس على سكان القرية وعلي وعلى القرية الكونية ككل..
" مقطع من قصاصات الطفولة"