لماذا أزمتنا الفكرية تتعمق بدل أن تنتهي ؟ / التراد ولد سيدي

سبت, 01/02/2020 - 10:24

نختلف بحمد الله - الذي نحمده على كل حال  - على كل شيء سوى أننا في أزمة فكرية  عميقة تضعنا في ليل دامس يصعب فيه تمييز الأشياء وأحيانا يستحيل تمييزها.. فكوننا نعيش أزمة فكرية شيء مفروغ منه.. و الذي نختلف فيه هو منذ متى نعيش هذه الأزمة.. ونختلف في تحديد مظاهر الأزمة وتجلياتها فمنا من يرى أن أصول أزمتنا قديم جدا ويرجعه إلى أزمة الحكم في آخر حياة الخليفة الثالث ذو النورين. رضي الله عنه ..والتي أدت لقتله وما أعقب ذلك من مواقف وصراعات بين الصحابة الذين افترقت الأمة حول اجتهاداتهم وآرائهم .. مما تسبب في ظهور الخوارج وآرائهم الموغلة في الغل واجتهاداتهم التي خرجت عن المألوف  و كذلك كان السبب في بداية ظهور  عدد من المذاهب والتيارات الفكرية التي استمر منها ما استمر كالإباضية  والشيعية بفروعها الثلاث ( الجعفرية والعلوية والزيدية ) واختفى  ما اختفى كالمعتزلة والمرجئة وغيرهما   ..والبعض يرجع الأزمة إلى فترة الانحطاط الذي عاشته الأمة بعد العصر الراشدي ..والاموي.. والفترة الاولى من العصر العباسي.. بما في ذلك الفترة الاولى من الحكم في الاندلس قبل التدهور وحكم الطوائف الذي تسبب في انهاء الوضع ..

لكن البعض يرجع الأزمة إلى مراحل متأخرة جدا بعد كل ما ذكرنا وبعد الحملة الصليبية والغزو المغولي الذين كان لهما من التأثير مالا يمكن التشكيك فيه.... ويجعلون أزمتنا الحالية وليدة سيطرة الاستعمار الحديث حيث استغل الضعف العام فشجع تحريف فهم النصوص الدينية لتدجين العقلية لتتلاءم  ومتطلبات السكينة والهدوء الذين يناسبانه كما قام بفرض ثقافته وتقاليده على مجتمعنا و تقاليدنا وسلوكياتنا و لأنه المتفوق. فقد كان التأثر بثقافته وقيمه كبيرا ولقد أدى تدخل الاستعمار إلى صعوبة تشكيل وعي ورؤية  تنسجم وقيمنا ومصالحنا ومقتضى دلالات نصوص موروثنا الديني والقيمي  فقام بدلا من ذلك الاستعمار بتشجيع أي شكل من الاجتهاد الذي يحدمن مجال الوحدة أو التحرر ويفتح المجال لاجتهادات تضعف اللحمة وتسهل الاختلاف كما ظهر في جميع نواح عالمنا لكنه كان أوضح في تشجيع الكثير من الطرق الصوفية وشجعت انبثاق وتوالد الطوائف والاتجاهات التي ازدهرت في  شبه القارة الهندية الذي منها انبثق أقوى الاتجاهات السلفية المبنية على الولاء والبراء المودودي وآخرين ومنها نشأت جمعية الدعوة والتبليغ  الذي لا يهتم معتنقوها  بالسياسة ويعتمدون نهجا يساعدهم على التوسع والانتشار وكذلك ظهرت الطائفة القاديانية . الاحمدية التي تدعي تجديد الإسلام  و تغير أسسا دينية مؤثرة ورئيسية وتتبع أساليب في غاية المكر والقدرة على التأثير على من لا يدرك أسلوبهم الخبيث.

كل هذه الأمور في الجانب الديني وتدخل الاحتلال للتأثير في العقيدة... وفي السياسة والسلوك الاجتماعي عمل الاستعمار ولغته وثقافته على زرع مفاهيم حديثة ذات منشئ غربي كالماركسية المادية اديالكتيكية  وكالقومية بأشكالها المختلفة لقد كان تبني أعداد كبيرة من المتعلمين في المدارس الحديثة نظرية الماركسية ودعوتها للحرية والعدالة في توزيع الثروة وعدم قبول استغلال الانسان للإنسان لأنها كانت مغرية ومناسبة لحالة المجتمع  الذي يفتقر للعدالة ولم يوجد فيه بديل ينطلق من نصوص الدين أو تراث المجتمع... هذا سهل وجود الماركسية وانتشارها رغم أنها لم تستطع أن تبلغ حد التغيير الحقيقي والتوسع في المجتمع بشكل مؤثر وكان ظهور الاتجاهات القومية الذي ساعد فيه دور المثقفين المسيحيين في الشام الكبير  سوريا و فلسطين الذي كان الاحتكاك بينهم  والدولة العثمانية .قويا لدرجة جعل توجههم للقومية سبيلا للخروج من التبعية للدولة العثمانية لقد  كان  هذ الدافع الرئيسي حسب رايي وإن الشعارات التي حملها التيار القومي و فكرة الوحدة العربية والحرية كانت اساس نظرة مجموعة القوميين في سوريا ميشل عفلق  والبيطار وكان و كان أكرم الحوراني يشكل تشكيلا باسم العربي الاشتراكي فالتقى الطرفان على إنشاء حزب البعث العربي الاشتراكي في ٧ إبريل ١٩٤٧ ولقد تمدد بسرعة وخصوصا في مناطق المهمشين العلويين في سوريا وشيعة جنوب  لبنان وجنوب العراق الشيعي ايضا .. و لقد لعبت القومية وشعاراتها دورا مهما لاسيما بعد تبني نظام ٥٢ يوليو في مصر  لها إن تبني عبد الناصر للقومية وإنجازاته تأميم السويس والتصدي للعدوان الثلاثي.. ودوره في عدم الانحياز وقدرته الاعلامية الهائلة أدا إلى احتلاله مكانة مرموقة و لقد كان   لإنجازات النظامين السوري والعراقي دور مهم كتأميم العراق للنفط وتعريب سوريا للعلوم وخصوصا الطب..  لكن عدم القدرة على تحقيق شيء من الوحدة والفشل أمام إسرائيل فرغ شعار ات القومية من محتواها ولقد انشغلت الأحكام القومية بصراعات بينية و انشغالات أبعدتها عن التأثير في الواقع بل إنها شكلت إحدى منطلقات أزمة الفكر بدل ان تكون عامل علاج وكانت في ذلك مثل الماركسية لم تستطع التأثير في الرأي العام بما يحدد المسار  ولقد كانت الحركات الإسلامية في المئة سنة الماضية تحاول التأثير في الواقع رغم الصراع ضد الأنظمة والصراع ضد التيارات المناوئة عن يمينها وشمالها ورغم ما عانت ومنه اخطاء ارتكبتها بربط علاقات مع السعودية التي لم تغير سياستها المرتبطة بأمريكا والغرب رغم ذلك  أثمر نضالها وجود الحركات الفلسطينية الحالية التي تشكل الأمل في استمرار النضال لاستخلاص الحق المسلوب.. و رغم الصعوبات فالحركة الإسلامية هي الأكثر انتشارا في عالمنا العربي لكنها تشترك مع الكل في أزمة فكرية تكاد تخفي معالم الطريق نحو المستقبل بل تخفي فعلا كل معلم يمكن أن يحدد المسار

فجميع من في الواقع لا يحدد عدوا حقيقيا يعاديه... ولا صديقا حقيقيا يصادقه... إننا مثل ما يحكى عن أهل بابل أنهم فجأة تبلبلت السنتهم فلم يبقى أحد يفهم لغة أحد فالجميع يتحدث والجميع لا يفهم..  ولا يفهم  هذا واقعنا الآن سواء كان السبب قديما أو جديدا إننا الآن نحتاج رؤيا تساعد على مواجهة واقعنا البائس  وننتشل بلادنا من الضياع..