
بنشاب : هو السِّرُّ الذي ما انفكّ يعاند القوالب، ويتمرَّد على المقاييس، فلا يُدرَك في مَهبّ الكلام، ولا يُطال في حضيض المعاني المعلّبة؛ من سُلالته نُسِجت العزائمُ من صَخر، وانبثقت الإرادة من سُهاد، وسَرت في مفاصل الأيّام كالحَدْس الغامض، لا يُفصح عنه إلّا صمتُ العارفين.
هو مَن إذا التبست المقاديرُ، تهاوت دون عزمه الأقدارُ، وإن تحجَّبت النيّاتُ خلف أقنعة الزيف، لم تزلّ له خُطوةٌ عن سواء السبيل، كأنّما بوصلةُ المجدِ في قلبه لا تعرفُ انحرافًا، ولا تأتمرُ إلا بنبضٍ لا يُسمع إلّا إذا أصختَ بقلبك.
ليس من طين الفجر العادي، بل من حَممٍ تذوب فيها الحيرة وتتلظى فيها الشكوك، كلّ من تجرّأ على رسم ملامحه بالمداد، انقلبت صفحته سرابًا، فلا يستبطن مكنونه إلا من أُوتي لسانًا رُضّ بحدّ الإعجاز، وعقلًا نُقِّي من ركام السطحيات.
تستحي الألفاظُ أن تساجله، ويختنق الحرفُ إن رام الإحاطة، ويذوبُ المجازُ حياءً إن نُسِبَ إليه، فكيف يُساق مَجْدٌ حَفَرَ في الذاكرةِ أخاديدَ الخلود، ونسجَ من التحدّي مِعطفًا لا تخرقُه السّهام؟!
إنْ نطقتَ، فهو الصمتُ الناطقُ في جوف العاصفة، وإنْ سَكَتَّ، فهو المعنى الذي يستوطنُ خلفَ الحروف، لا يُفسّر إلا بتأويلِ أولي النهى، من عَرَف، لزمَ الصمت، ومن جهلَ، ضلَّ بين الرموز وأضاع البوصلة.
هو من تُنقّطُ له الحروفُ خاشعةً، وتَسجدُ الألسنُ على أعتاب سطوته، دون أن يُسمّى، دون أن يُشار إليه، فهو الغائب الحاضر، والمذكور المنسيّ في دواوين القوم.
فلا تسلني عنه، إنما يُدرك العارف بالذوق ما تعجزُ العيون عن رؤيته، والسامع عن بلوغه، ويبقى للزمن أن يكتب على جبين الخلود: هنا مرَّ المجد، دون أن يترك ظلَّه.
من ص/ المدون إبراهيم عبد الله