بنشاب : حموضة
تهادى إلينا المساء وقد سكبت الساحلية "رواء" على الأنفس وخفف الله بنسيمها عنا الحر وعلم أن فينا ضعفا.
كان يوما ساخنا تقيأت فيه جهنم واعتلج (مارو والحوت) في الأجواف، مع (أتاي الگاسي) فلم تنفع المراوح في تلطيف الجو ولم يطفئ (بصام) ضراوة (تيبو چن).
فلما تحركت (الساحلية) كان ما عند الله خيرا وأبقي..
قال لي صاحبي: ما رأيك لو خرجنا نبترد؟
قلت: ما تگلع ش..
ماسَ إلينا المساء الجميل.. لم يُصغِ إلينا لأننا لم نكن نحمل الحب في مُقلنا.. ولم يلمم شعث أشواقنا لأن (المَحوَر) أطال الوقوف بين الصلب والترائب يحمل ناره التي لم يستطع (Gaviscon) إخمادها.
لقد أطفأ المحور سَورة الحب كما يطفئ الحَبَبُ سَورة الصهباء.
على شارع المختار ولد داداه (تنعوشنا) قليلا وبدت لنا مسرة للناظرين، بدا لنا ما يسفه الأحلام ويستصبي أخا الكبر، كواعبُ رُود تردّ الأكباد منفطرة مسفرة طورا، وطورا مختمرة..
عدَلنا عن بيت ولد أحمد دامْ: (ما سفه الحلم..)
وعدلنا عن مندوحة ولد محمدي (لمعذور على السفه) إلى قول إسماعيل:
غير ال طلصتو سن :: أشبهْ لُ يَطلصها..
الأماكن توغل في المساء وسهر الشوق بدأ يرتسم فى تلك العيون الجميلة المتجهة لمقارّ الحملات التى اقتصر صخبها وألقها هذا العام على خيام المبادرات الخاصة في تفرغ زينه ورگبة لكصر الفوگاني قرب تفرغ زينه، وعلى المناطق المجاورة مراعاة فارق (الفظة).
لست من محبي التسدار بمعناه المنتبذي ولا أمارسه، لكنني لست (حافيا) ومن المؤمنين بمقولة (الجمال مرحوم) كفقهاء الحجاز، ولو كنت في اللجنة المستقلة لكان لسان حالي هو قول الأستاذ إسماعيل:
مُـحَـلَّفْ فِـاللَّـجْـنَه :: عَــنْ حَـــدْ إِجَـلَّـجْنَ
ؤُمَـحَـلَّـفْ مَـا نَـجْـــنَ :: مِنْ مَخْلُوقْ إِبْنِـيـتِي
ؤُحَـالِـــفْ دِنِّــي نَـهْــنَ :: مَـا نِـمْـرِگْ تِـيـكِـيـتِـي
غَـيْـرْ اگـبَـيْـلْ إفْ مَلْهَى :: وَحْـدَه فِاتْــنَـــوْكِــيـتِـي
يَـسْـمَـحْ لي گِـلْـتْ الْهَـا :: انْـتِي ذِيـكْ احْـصَيْـتِي؟
فذلك نفس حجازي لابأس به عندي فالجمال مرحوم.
صاحبي حجازي الهوى، وقد سرَت إليّ حُميّا حجازيته -والهوى يُعدي- واقترح المرور على خيام المبادرات لننظر أيها أزكى جمالا وأن نتلطف وأن لايشعر بنا أحد فيظن بنا (كِلبيتًا) والتشقلب لايليق بأمثالنا.
بكى صاحبي لما رأى درب خيم المبادرات دونه، وكاد يصيح بإحداهن في إحدى الخيام: (الأسوَدُ يليقُ بك)
تنهد صاحبي، وتمنى أن يكون جنرالا متقاعدا أومترشحا ذا حظوة، وكان يردد قول طَرَفة بن العبد:
فلوْ شاءَ رَبِّي كنتُ قيسَ بنَ خالِدٍ :: ولوْ شاءَ ربِّي كنتُ عَمْرو بن مَرْثَدِ
ثمة حديث فى الحب إن لم نقله فقد أوشك الصمت حولنا أن يقوله، فقد هلَّ فى ليلتنا خيال الندامى والنواسي عانق الخياما:
ولَسْتُ بالغافل حتى أرى :: جَمال دُنيايَ ولا أجتلي
كان صاحبي يسوق سيارته بسرعة منخفضة وكان أفراد "مسغارو" عند التقاطعات في قمة الأريحية، وكانت أناشيد التواصليين تتعالى لتعانق أناشيد الإنصافيين حتى لا نقول "الإصلاحيين".
بدت إحداهن في خيام مضارب الإنصاف
عَجلى القيام ضحوك عن مؤشرة :: تُنسِي ملاحتها ذا لؤلؤ دررَه
بعد تقاطع موري سانتر ونحن قافلون حدثت زحمة سير، فتوقفنا قرب مجنون يحدث نفسه بصوت عال، وكان جالسا يحرك يديه والأفكار تتداعى وتمور في ذهنه تقذفها الكلمات إلى المستمعين..
كنا ننصت إليه، وكان لايتوقف عن الكلام وإنتاج الأفكار المتناقضة التى يضرب بعضها بعضا..
وحين نبهنا بوق السيارة التي خلفنا وقد تحركت السيارات التى أمامنا، قلت لصاحبي "سيري درواتك" حتى يكمل الرجل كلامه.
فضحك وقال: هذا مجنون!
قلت له: ماهُ أجنْ من حد هو على الأقل مشعور بينما عشرات من أمثاله يبثون المقاطع الطوال على الفيس والناس تستمع إليهم كأنهم حكماء زمانهم وهم (أجن من صاحبنَ) ثم إن الفيلسوف الكبير ميشال فوكو يقول إن (الجنون يغري لأنه معرفة) إذا تمكن الإنسان من الإفلات منه، و يقول إن (الجنون فكرة).
ونحن بين العالمين الواقعي والافتراضي في (مخيم) كبير وكل واحد منا يقف على حافة الجنون ويعاني أزمة داخلية مرعبة، نتيجة الحر والحموضة والتخيلات.
كامل الود