بنشاب : أسهمت الحروب والآفات الغذائية في تنامي الهجرات نحو موريتانيا بحثاً عن الأمان والكلأ والماء وباتت البلاد تضم شريحة واسعة من المهاجرين.
تعيش أقليات من الطوارق والقبائل الزنجية في موريتانيا على الهامش، يعزلون أنفسهم داخل تجمعاتهم ونادراً ما ينسجمون مع غيرهم من الشرائح الاجتماعية في البلاد، يفضلون التزاوج داخل محيطهم القبائلي ويحتكمون في حل خلافاتهم لعرف القبيلة ويلجأون لزعيمها حين تحدث صراعات مع أبناء عشيرة أخرى.
ويتوارث أبناء هذه الأقليات تقاليدهم وأعرافهم ويحتفظون بكل أسرار عاداتهم بعيداً من الغرباء ويمنعون التطفل على كل ما يخص موروثهم وتقليدهم، غير أن احتفاظهم بهذه الخصوصية وتمسكهم بالعزلة التي يعيشونها تمنع اندماجهم وتضعف انتماءهم للمجتمع والدولة.
وأسهمت الحروب والآفات الغذائية في تنامي الهجرات نحو موريتانيا بحثاً عن الأمان والكلأ والماء، وعلى مدى القرنين الماضيين استقطبت سهول وضفاف نهر السنغال جنوب البلاد موجات من الهجرة من دول الساحل الأفريقي التي عانت الفقر والمجاعة واصطياد الأفارقة لإرسالهم لأوروبا كعبيد، فيما استقطبت الصحاري وواحاتها بعض فصائل قبائل الطوارق القادمة من مالي والنيجر وجنوب الجزائر.
الهجرات أوجدت الأقليات
كان تعداد السكان في موريتانيا لا يتجاوز مليون نسمة في منصف التسعينيات لكن الهجرات الأفريقية رفعت التعداد السكاني بصورة كبيرة وأدخلت قبائل وأعراق أخرى إلى تركيبة البلاد بخاصة الزنوج الأفارقة الذين استوطنوا الجنوب والساحل وبقيت القبائل العربية تستوطن الصحراء والمناطق الشرقية.
في هذا الصدد، يقول الباحث الاجتماعي يحيى ولد محمد يحظيه في حديثه إلى "اندبندنت عربية" إن "الأقليات التي تعيش في موريتانيا هي نتيجة الهجرات التي حدثت في العقود الأخيرة وحملت معها أعراقاً وإثنيات مختلفة، واستمرت هذه الهجرات متأثرة بالأحداث في الساحل الأفريقي ومستفيدة أيضاً من الحدود المفتوحة وضعف قوانين الدولة الفتية، واستفاد هؤلاء من الجنسية الموريتانية على رغم أنهم ليسوا موريتانيين".
ويضيف أنه بسبب ضعف التعداد السكاني في بلد تزيد مساحته على مليون كيلومتر مربع كان هناك تشجيع رسمي وترحيب شعبي بالهجرات الجديدة، بل إن العائلات الموريتانية كانت تستقدم عمالاً بأسرهم وتشجع كل الغرباء على الاستقرار وتقدم لهم الدعم والمساعدة.
ويرى أن هذا الاحتضان الشعبي والاستقرار الذي عاشته موريتانيا مقارنة بباقي الدول بالساحل الأفريقي أسهم في إقبال أقليات، تحديداً خلال فترة السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات من القرن الماضي على البلاد، واستيطانها مناطق حدودية من أجل العمل في الزراعة والرعي.
ويشير إلى أن أهم ما يميز الأقليات بموريتانيا أنهم لم يحملوا معهم معتقدات دينية غير تلك الموجودة بالبلاد فجميع الأقليات تتبع الإسلام السني السائد في البلاد، مما يمنع الصدام بين العرقيات على أساس ديني ويمنح فرصاً أكبر للانسجام بينها، أما سلبيات وجود الأقليات فيقول الباحث "ضعف انتمائها الوطني وتفضيل معظمها الانعزال عن بقية المجتمع وتمسكها ببعض العادات البالية التي تحد من مشاركة المرأة في المجتمع، هي أكثر سلبيات وجود الأقليات بالبلاد".
ويضيف "غالباً الأقليات تبقي انتماءها قوياً لبلدها الأصلي وتتأثر بكل ما يحدث فيه مما يضعف من قوة انتمائها لموريتانيا"، موضحاً أن الاهتمام بدمج الأقليات ونشر الوعي بينهم وتعاقب الأجيال كفيل بتغلب الأقليات على مشكلات العزلة والتمسك بالعادات البالية وضعف الانتماء الوطني.
وينبه يحظيه إلى أن السلم الاجتماعي والاستقرار السياسي والصدقية التي تحظى بها الدولة تشكل مناخاً مواتياً لانسجام الأقليات في المجتمع.
تعزيز ثقافة التعايش
من أهم الأقليات التي تعيش في موريتانيا "الزنوج" و"الأعجام" الذين زحفوا إليها في فترات متفرقة بحثاً عن الاستقرار وهرباً من انتقام القبائل وانقساماتها وحروبها، فوجدوا في الصحاري الفسيحة والسهول المنتجة ملجأ لهم وموطناً بديلاً عن وطنهم الأم.
وتنتمي غالبية الأقليات التي تعيش حالياً في موريتانيا إلى السنغال ومالي وغينيا وساحل العاج. ويقول أعل أحمد العيشة الذي ينتمي لأقلية الأعجام القادمة من مالي، إن الأقليات في موريتانيا تعاني عدم إدماجها في النسيج الاجتماعي وعدم الاهتمام بمشكلاتها.
ويتابع "على رغم أن ما تطلبه الأقليات ليس سوى حاجات ضرورية كالتعويض عما تعانيه من قلة الخدمات ونشر ثقافتها فإنها لا تجد من يلبي مطالبها".
بدوره، يطالب الباحث الاجتماعي محمد محمود ولد الغوث بتنمية المناطق حيث توجد الأقليات من خلال توفير الخدمات الأساسية وفرص العمل والاستثمار في المجالات الزراعية والصناعية التي يجيدون العمل بها.
ويمضي في حديثه بالتأكيد أن وجود الأقليات يثري تنوع المجتمع ويحفظ أرشيف الذاكرة، موضحاً أن احتفاظ الأقليات بتقاليدها يعكس التنوع العرقي والثقافي للمجتمع.
ويرى أنه "ما دام المعتقد الديني واحداً لجميع أبناء الوطن، فلن تكون هناك مطالب بحرية المعتقد والشعائر للأقليات كما يحدث في دول أخرى، لذلك فكل ما هو مطلوب بموريتانيا هو تشجيع أبناء الأقليات على الاندماج واحترام العناصر التي تتميز بها كل شريحة كالعرق والأصل واللغة والعادات والتقاليد والتراث الحضاري والتاريخي".
ويتمسك بأن معاناة الأقليات من صور متعددة من التمييز يؤدي إلى التهميش والاستغلال واستمرار اللامساواة والعزلة، مضيفاً "ليس في مصلحة المجتمع إثارة النعرات القبلية والعشائرية وتهميش جزء من شرائحه، فكلنا يتمنى أن يؤسس مجتمعاً عارياً من ثوب الجهة والقبيلة والشريحة والأتباع والأنصار وأن تحترم فيها مبادئ الكفاءة والوطنية والعمل وتكون هي معيار التفوق والريادة".
ويشير إلى أن التجاذبات التي تحصل من حين لآخر بين الشرائح الاجتماعية على خلفية قرارات إصلاح التعليم وتعريب الإدارة وبعض القوانين التي تعالج الانتهاكات والتجاوزات الإنسانية التي تحدث، تؤكد أن البلاد في حاجة ماسة إلى نشر ثقافة قبول الآخر مهما كانت نسبته بالمجتمع، وتجاوز الأزمات بالعفو والتسامح وجبر الضرر وتغليب المصالحة الوطنية لتجاوز مخلفات الماضي
اندبندنت عربية
خديجة الطيب صحفية موريتانية متخصصة في شؤون غرب افريقي