مدخل: بداية التيه ..
كانت موريتانيا قبيل اندلاع حرب الصحراء المشؤومة بأيام، تحتفل بالذكرى الخامسة عشرة لاستقلالها الوطني في 28 نوفمبر 1975، وهي سعيدة ومتصالحة ومزدهرة.
... واندلعت الحرب فأتت في أقل من ثلاث سنوات على الأخضر واليابس، ومهدت لقيام التحالف المعادي للوطن والتقدم في الداخل والخارج بانقلاب عاث فسادا في الأرض وجعل عالي الدولة والوطن سافلهما.. وبدأ موسم التيه...
كرت وحدات من الجيش الوطني بقيادة العقيدين أحمد ولد بُسيف ومحمد ولد ابه ولد عبد القادر - رحمهما الله- لنجدة الوطن ووضع حد للانهيار الصاعق على كل الجبهات، فكان انقلاب 6 إبريل المضاد سنة 1979... ولكن تيار الردة كان جارفا ومكينا، فـ"اختفت" طائرة الرئيس أحمد ولد بوسيف في 29 مايو من نفس السنة، وهاجر العقيد محمد ولد ابه ولد عبد القادر إلى حيث رفع لواء الرفض والمقاومة في المغرب الشقيق. أما الرائد جدو ولد السالك الذي رفض الاستسلام لـ"بولزاريو" وحلفائها وأصر على أن لا تكون موريتانيا طرفا في حل منفرد، وأقسم بعد عزله أن لا يحتفل الرئيس ولد هيدالة وصحبه بِعِيدِ العاشر يوليو المقبل... فقد "اختفى" هو الآخر في ظروف غامضة في سيارة لإدارة الأمن يقودها شرطي لم يصبه أذى! وظن العابثون والمتآمرون ولصوص المال العام الذين اختطفوا موريتانيا أن الجو قد خلا لهم إلى الأبد، وباستطاعتهم أن يفعلوا بها ما يشاؤون.
خلا لك الجو يا أقزام فانتفخي ** وجادك الحظ يا فئران فاقتاتي
ولكن هيهات.
لقد هب أحرار موريتانيا من كل حدب وصوب يلبون النداء ويرفضون القهر والهوان ويرصون صفوفهم في تنظيمات عديدة أبرزها AMD؛ وبدأ النظام قمع معارضيه.
1. من نواكشوط إلى تشيت
كنت والأستاذ التجاني ولد كريم (رئيس المجلس الأعلى للشباب) أول الضحايا؛ حيث تم اعتقالنا يوم 23 فبراير سنة 1980. وبعد أسبوعين من الاحتجاز في مخافر إدارة الأمن، تقرر نفينا إلى مدينة تشيت، وأسندت المهمة للحرس الوطني فقام بها أسوأ قيام. وقد هدد الرائد إبراهيم باستعمال القوة لحملنا على الركوب بجوار برميل بنزين نازف في مؤخرة إحدى سيارتيه المكلفتين بنقلنا. وكانت أوامر الداخلية يومئذ تقضي بسجننا في زنزانة ضيقة مغلقة أربعا وعشرين ساعة على أربع وعشرين ساعة! رغم أن القانون يقضي بخلاف ذلك. فكنا نعاني نهارا من حر تشيت الخانق، وليلا من عواصفها الرملية الهوجاء. وإن كان أشد ما عانينا منه في تلك الفترة السوداء هو سب وإهانة أبواق إذاعة "بوليزاريو" الموجهة من بعض دول الجوار، لموريتانيا والموريتانيين وتطاولها عليهم.. (لعل أعضاء "الوفد البرلماني" الذي سافر إلى مخيمات تيندوف منذ أيام لم يكونوا قد ولدوا بعدُ يومئذ.. أو ولدوا وهم مصابون بفقدان الذاكرة الوطنية) وكنا نتمثل في ذلك بقول شاعرنا الكبير أحمدو ولد عبد القادر في الأبواق التي تدافع عن الاستعمار الجديد وأعوانه:
أصغي إلى بوق الأرا ** ذل يستبـد ويدعــي
هلا التجأت لمــدفعـــي!
ومع ذلك، فقد صمدنا ورابطنا بجوار جبل "القبله" الأشم وأقسمنا أننا مقيمان على عهد الوطن ما أقام، ولم نبال:
وليلة من ليالي الصيف كالحة ** نادمتها وهي بالصهباء تغريني
رمضاؤها تلتظي تحتي تهدهدني ** ورَوْحُها كلهيب الحب يكويني
ما حيلتي في جحيم لا قرار به ** فالقبض يخنقني والسدل يشويني
أسامر النجم؟ قد غالته وطأتها ** وألبست بدرها ثوبـا مـن الطيـن
وأصبح الكون قفرا لا حراك به ** كأنه صخـرة في كهـف مسجون
... ولت كمثل لييلات لنا ** في ذمة الحـق أبليهــا وتبلينــي.
.. لكن رحم الله الشريف المرتجي ولد مولاي أحمد، حاكم مقاطعة تشيت ما كان أشجعه وأعدله وأكرمه.
يتبع >>
ذ/ محمدٌ ولد إشدو