قِصَّة مَمَرٍّ.. وقِصَصٌ في المَمَرّ. ........ا

المَمَر معبرٌ بين خَطَّين مُتوازيَّيْن من المَكاتب، وفي أقصى الرّكن يقع مكتبي (فاتح في الگرن) وكأنه (عارفنِ).
كُنَّا مجموعة من نِثار الموظفين، متشاكلة فيما يقرب الانسجام، شباب وما فوق ذلك، قُسِّمت أثقال المَهام على ظهورنا رسميًّا، بمقاسات الصدفة والحظ وحظوة الوجاهة الاجتماعية أو الترضية السياسية.
لنا في الممر مستقر نصف يوميِّ مُنعزل، ولذا اعتدنا فيه كثيرا على أنفسنا، نتقاسم فيه شطرًا من حياتنا وشقا من حكاياتنا،..  ولنا في الممر أيام ليست بالعظيمة وفيه أيام كابتسام الرزق.

تتمايز خريطتنا لمجموعتين:
1. سكان مكاتب الميمنة، وهي طائفة خارج زماننا بتصنيفنا، بمعنى متصلِّبة شيئا مَّا في الطبع الظاهر وفي العقلية، ومن شخوصها شاب سليل أسرة من مقاس XXL   الاجتماعي-الإداري التقليدي، ينتمي لجهة من جهات الله، يليه كهل من أقصى تخوم أرض الله هذه، يعيش طور غروبه الوظيفي الكادح، يليه قادم جديد، قمحي اللون بملامح باكستانية (أظبطوهْ)، أُخلِي المكتب من ساكنه الأول لأجله، وهو "دوبل آمبلوا جغرافي" بين أهل السَّاحل وأهل الشرگ،.. يليه إطار سونونكي، مُنغلق بإحكام على تفاصيل يومه التي تُعيد توليد نفسها.

2. سكان مكاتب الميسرة، طائفة من جيل جديد في الممر، العقلية فيها شبابية، مؤانسة ومِطواعة للمجاملات، يعني  Cool quoi ، تبدأ هذه الطائفة بمكتبي الذي يَضمُّني وطاقمي المؤلف منْ لا أحد،.. يليني شاب، ابن سياسي مشهور ، يليه شاب "مداخلة ترابية" بين جهتين، ثم شاب من أسرة حزبية. 

جَمْعُ الطائفتين يُعطي مُجتمعًا مصغَّرا هو نحنُ،.. نعمل بجدٍّ، ونتقنُ قدر الجهد، نتقاسم طرائف اختلاف الطباع والخلفيات والكفاءات،.. ننافس الوقت بما كُلِّفنا به لنتجاوز يومنا الزمني بأمان إلى وريثه الذي يأكل وقته قبل أن يولد، نعيش في الأغلب سلامًا ظاهريا لا تُزاحمه شحناء غائرة، لأن الاقتتال هناك يكون بالمكائد الراقية. 

حين تُكرِّرُ الأيام الهادئة نفسها، تجعل جو الممر خامدا، فذروة العمل المُتشارك بيننا خارجه عادة، أما داخله فالكل منشغل بروتين مهامه الإدارية أو غارق في سكونٍ كصمت القبور، لا يكسره إلا رجع زفراتنا من الضَّجر، أو صوت نِعالهم وكعب حذائي بين إقبالٍ وإدبارٍ، أو قرع بابٍ، أو صرير مزلاج، أو تبادل دردشة عابرة بيننا.. أو ربما خَطْو نادل غادٍ منَّا إلينا على عجل ليخدمنا أو ليوزِّع علينا همسًا آخر اصداراتِ  النَّميمة وقد تكون من  اختراعاته، أو ليمارس علينا ما يُشبه جمع الجزية، وكلّ حسب جِراب جيبه.

في الممر وجواره نتصفَّحُ كالعجائز كل قادم يستعجل أمنيات مستقبله على عتبات الحُلم، ونُنْزلُ فضولنا على صَفحاته الإدارية غير المقروءة جيدا،.. ومنهم من لا يرهقنا فك رموز كتابه، ففي مَبلغ حماسه يتكفل لسانه بالمهمة، قبل أن يكتشفَ أنّ الحلم في الممر من أشباه أحلام ليست تُطال، كتلك التي تُخفق في تَوليد الماء من السَّراب.. ومنهم المُمانع، فالممر محطَّة عبور بين مسلكين هلاميين: توفيق مُؤمَّل أو خيبة محتملة.

سأُدحْرجُ ذاكرتي للوراء قليلا لأقتفي أثر شذرات من ذكرياتٍ من التعايش مع ثلاثة من سكان مكاتب الميمنة، وسأكشف بالاسم عن شخصية ثالثهم، الذي لم يمنحنا فرصة التَّعارف،.. يغير امحو اسمو امنين تگراوه،.. D’accord

• الشخص الأول:
وهو جاري الأقرب إليَّ في المسافة من سكان الميمنة، شاب متطرف الهدوء، دمث الأخلاق، مُثخَن بقيود من "الوثاقه" أسبغت عليه وقارا سبعينيا،.. جعله ثقيل الخطو، محسوب الكلمات، محسوس التَّكلف... المُحصِّلة، سمتُ شابٍ وطبعُ أشْيَبَ من حُراس عُقود الموروث وعُقده..، وكنا كفريق ارتقينا فيما بيننا من مستوى الزَّمالة إلى الصداقة أو حتى للأخوة، في حين لم نرتق معه لأكثر من مجاملة مرسومة التخوم.. 

استَبدَلَت إدارتي ترسانتها المعلوماتية بأجهزة أحدث، أشرف عليها مالك مركز توزيع أدوات المعلوماتية (CDI)، فعرض عليَّ مجاملة سلسلة أفلام مُتساوِقة مع جهازي الجديد، لكني اعتذرتُ، لكوني لا أملك وقتها، والتمستُ منه مقابلها من التسجيلات الصوتية، ففعل مشكورا،.. وبها انتعش طقس مكتبي، أصبح شيئا مَّا يُجسِّد روح المرحومة «وزارة الثقافة والتوجيه الإسلامي»، محاضرات ثقافية ودينية ومنوعات طربية كيفما اتفق، أتناولها تقسيطا مع كوكتيل يومي من الضغط والحذر،.. وأضبط مدى الصوت بعناية في حدود مكتبي.. 
من حين لآخر يُعرِّج عليَّ جاري المحافظ بلغة أقصى اليمين الاجتماعي وليس الديني، أعرض عليه كأس ماء أو فنجان قهوة، فالشاي من الممنوعات عنا، وقد تُهرَّب كأس لندمائها ممن هم أعلى منا في الرتبة والترتيب،.. وكالعادة يُجدِّدُ جاري اعتذاره عن عرض الضيافة، وأغلب الحدس لكونه من مال امرأة.. من ردود فعله الثابتة أنه، إنْ وجدني مع الثقافة والدين أثنى على "اصراري على معرفة أمور ديني!" وإن وجدني مع الموسيقى، تَبَسَّمَ يُكرِّر: «يا هادي يا رشيد، ذيك المحاضرة اليامس أراهيالك بعد مفيدة للتَّعلُّم »،.. وبدوري أكرر في خَلَدي: «صبرًا آل ياسر، متى يسلم الروح الثقيلة لبارئها»، فحضوره يتطلب أحيانا دُربة روحانية على التَّحمل..، صارَحَني يومًا أنَّ تقديره لي، يدفعه لخشيةٍ عليَّ من أنْ "ينْكسرْ لِ شِ" هُنا،.. استغربتُ!، ثم أشار إلى الجهاز الضَّال المتغنِّي.. فذلك "الشِّ" العالق في حنجرته ويُدينه تلميحا يُسمَّى: «الاستماع للموسيقى في المكاتب».

 ابتهجتُ حين اكتشفتُ أنه يملك فطنة الانتباه لأيِّ شيء، ونبَّهته بكلماتٍ ضامرة الخصر إلى أنَّ «خشيته» الودود توجُّسٌ بمرتبة الظَّن، والظَّن عقوبة قبل الذَّنب..
 غاية المُتزمتِ أن يدفعنا بالتأنيب إلى توجيهنا حِرابَ ضمائرنا إلينا، فنُحارب عن طيب خاطر ما نحنُ عليه نيابةً عمَّا هو عليه، والنتيجة اقتتال نفسي يُسمَّى التَّدمير الذاتي! 

قلتُ ربما استدلَّ زميلي باختراع ابليس للنَّاي وغوايته لقوم شيث بالموسيقى،.. مُغالِطةً بذلك يقيني بأنَّه لم يلتقِ يوما وإبليس حتى يَستيْقِنَ منه صحَّة الأسطورة، .. لذا سألته عن حظه من بعض "فتن الحياة الدنيا" الأنيقة، فكان فارغ الوَفْضة،..
 بهدوء استعرضتُ أمامه بعض تَخَيُّلي لمشهد غير مريح لبراثن الدوغمائية وهيَّ تنغرزُ في عقلٍ شابٍّ نَضر، مُحْدثة صوتا من نوع ضجيج التفاهة، وحدَّثته عمَّا يَعنيه التمتع بالجماليات في الحياة، وعن حُسن طالعي بميلادي بعدَ لا قبلَ أم كلثوم مثلا، أو أترابها من "شائنات" السُّمعة الوجدانية، وبأنَّي معهم كشارب الماء المالح، كلما شرب ازداد عطشا.. وختمتُ ببعض "التزداح في جودة التربية الدينية"، التي لم تصادم الانفتاح.. لا أنبهرُ كثيرا بذلك الاستعراض الديني الغَرائِبي، الذي يدفع أمثاله إلى اعتقاد ظني، شبه أبدي، يُسلِّم بحاجة أكيدة "لبعض الناس" إلى الاستزادة المضطردة من أبجديات علوم الدين بالإرث الشَّفوي (الحنكية، مُستوى خطْ لَلْيافْ)، وليس بالمُدارسة العلمية،  فالنَّقص "المُحتَمل" مسلمٌّ به أصلاًو ثابت في الزمن.. لذلك ما فاتْ اطْرَ شِ،.. 
هل أقنعتُه؟، لم أنشغل كثيرا بطرح السؤال!
 
الأكيد أنِّي فاجأته يومًا في مكتبي متلبِّسا بشبهة هزِّ رجله على حوافِّ أنغامي "المَعيبة"، أو كذلك خُيِّل إليَّ، ففرحتُ أنَّ الشَّيطان قد لَوَى عِطفهُ عنوة نحو وِزْرِ " اختلاس احساسٍ" من أغنية دافئة لداليدا،.. أخيرًا استسلمت أذنه!.. بَيْدَ أني التمستُ له العذر بتعاطي ذلك العَيْب العَذب لا شعوريا.. فالروح تَخذل المُداراة.
 
• الشخص الثاني:
جاري الكهل،.. ينتصف مكتبه مكاتب الميمنة،.. رجل ودود، وأرشيف ناطق من السّرديات الإدارية المَحكية، يَعلم ذِكرَنا وذكر من قبْلنا في الممر، عارفٌ بأوْزان أهل الجاه القبلي، عَليم بأهل النفوذ السياسي، نسَّابة في أصول الوظائف عموما ومن تقلدها من الأحياء وممن ماتوا،..  لكنه يعاني من عصبية نوعية "مارگالُ لَـيْد"، وهي وقْفٌ عليه من دون بقية عباد الله في الممر، وقد اكْسَبت بعض أيَّامه عداوة مع المنطق، حين ينقلب كل لفظ صوبه لعثرة لسان.. تعودتُ على ألوانٍ من غضبه، تستفزها تفاصيل يومية ضئيلة، لكن عرفتُ منه أيضا غضبًا لغير داعٍ وجيه، ففهمتُ أنها حالة قهرية.. كانت قدراته تحجَّرت في زمن معين، فبدونا وكأنا نتقدم عليه بسنين ضوئية، فغدا وجودنا حوله يرمز لانقلاب غير مُعلنٍ في مُناخ المَمر،.. ولراحة بالي، منحته ضمنا تفويضًا مفتوحا بحقه في الزَّعل مجانا ومتى شاء!، بعد أنْ كَلَّ مِزاجي من تبديد البشاشة، والموقف نفسه تبناه رفاقي في جناح الميسرة،.. فما لي ولانتصارات لفظية ستهزم سلامتي النفسية، ثم أكرّر حياله: «إنَّ الحياة تمرين صبر». 
 
من طرائف التعايش معه التي لا تُحصى، أنْ قَدِم إليَّ ذات يوم، وطلب مني تدبير ميعادٍ له مع صديق طبيب أعْيُن، وكذلك فعلتُ على جناح الحماس، بل طوَّح بي الحماس والتمستُ من الطبيب منحه نظارة تناسبه، إدراكا مني بأنه يحتاجها صحيًّا وماديًّا، وبأنها العلة المستترة لطلب المُعاينة، فرد عليَّ الطبيب مُمازحا بحُكم مُطلق: « لستم فقراء حتى نمنحكم مجانا»، فأجبته بعفوية، وكنت (امْسَيْحَه):« بل نحن مُجسَّماتٌ حيّة من المَسْكنة الوطنية، ونملك شهادة مُصدَّقة  بأن الفقر يقف خلفنا في طابور الفاقة»،.. وضعتُ الهاتف، وشرعتُ أبشَّرهُ أنِّي انتزعتُ الميعاد والنظارة.. وجدته شاخصًا إليَّ ببصره وقد ارتسم الغضب على وجهه بحدَّة، ثم أقْسم بأغلظ الأيْمان أنْ لنْ يَحضر المُعاينة، وكيف؟ بعد أنْ شوَّهتُ للأغراب صورته بالعجز!،.. انخرطتُ في موجة ضحكٍ غبية، نسيتُ أن أقيَّدها في سيرتي الذاتية يوم انتميتُ إليهم،.. تَناوَبني الاختناق والحَرج، فقد شَقَّت بي مرارة تحريف القصد نحو ظاهر العبارة، وروحي الساخرة منِّي لا تُنصف أحيانا إرادتي الرَّصينة، فتقذف بي من النقيض إلى النقيض... تمايز الخلفيات والبيئات يكون أحيانا "امقيسيل".. 

كالعادة، طفقتُ أعتذر للمرة لا أدري كمْ!،.. فقد كنتُ أحتفظ له بتشكيلة مُفعَّلة من اعتذاراتٍ على مُستواه، علَّها تأتي على هواه،.. وكلما استَنْزَفَ رصيدي منها أجدّده، .. ففي المناسبات الدينية حين أبادله السّماح، أتوسَّله -مُهازِلة بتلطُّف- مَنْحي "آفانْص" شهرين من السَّماح، أخزِّنها لغضبٍ منه قادم حتمًا، وإنْ لم يَعد يَبْهتني،.. وجُهدي في التحفظ غالبا ما يُدركه العزاء قبل أن يُثمر .. عمومًا كانت محاولاتٍ لجبر خاطر ولو بكسر آخر، دفَعَتْني وزملائي مع تكرارها في الزمن إلى الابتعاد خطواتٍ للوراء لخلق مسافة أمانٍ تحفظ سلامًا، ستتحول -للأسف- مع الزمن لمسافة توجُّس أقرب للقطيعة.
  
• الشخص الثالث:
التحقَ قمحيّ اللَّون بممرّنا عن حزب سياسي بتاء مربوطة، أو كذلك قيلَ لنا، وكان عديم الاختلاط بنا، قليل التردد، يصل وبيده حقيبة في منتصف النهار في مشية زاهد،.. وما كان منَّا منْ معفيِّ من لهفة الاستطلاع الخفي تجاه الوافد المنعزل،.. فإذا آنسا نورا في مكتبه، نتخافتُ همسا "الصَّيد اطلع"،.. نُسرج على مطيَّة التّطفل ونَمرُّ عليه فرادى، عَلَّنا نقتبس منه ارتياحًا يُوصِلُ لخبر عنه،.. سنلقاه مُتشاغلا، يتصفح جريدة أو أوراقا،... وكلما أوْقدنا حماسا لتحيته اطفأه بتحية أكثر اقتضابا وأقل حماسًا،.. لم نسْتَمِله، فأسقطنا مؤونة التحية،.. صرتُ إذا مررتُ من أمامه، أصرفُ فضولي إلى نهاية الممر، ففي الانقياد للتطفل عدم ذوق، خصوصًا أنْ لا معرفة كانت ولا صداقة تُرجى ستكون.. لم يستمر الرَّجل معنا طويلا، ولم ننتبه لرحيله.

ستحمله السنين صعودًا وهبوطًا في الوظائف، فوق الممر وخارجه، وستظل نفس الصُّورة الخام تتـنقَّـلُ في ذهني خلفه.. لكن الطريف أني اكتشفتُ منذ سنة أو يزيد، هنا على الفيس، في أجواء التجاذبات السياسية، وجهًا آخر لذاتِ الشخص المنعزل، لرجل علميّ التفكير، غزير العقل، متمكِّن من الكتابة باللغتين السائدتين وفي غير اختصاصه، وكل هذا في حدود المعقول في حقه،.. لكن الغريب حقا أنه في كتاباته كان يُمازح، وينكِّت، ويشاكس مثلنا!.. فأقول سبحان الله!، يخرج الحيَّ من ذلك الجامد. 

أيوه وفِّيتْ المنشورْ ما سوَّلْتوني عن اسم الشخص الثالث ؟.. ماشي، اسمه: «د.اسلكو ولد أحمد إزيدبيه»! 

تحياتي.