بنشاب : في تطور جديد يتعلق بملف الرئيس السابق فوجئت هيئة دفاع الرئيس، بخبر صحفي مفاده أنّ وفدًا قضائيًا موريتانيًا توجه إلى تركيا في مهمة تتعلق بقضية موكلهم فبادرت الهيئة إلى تحرير رسالة، لاطلاع الجانب التركي - عبر وزارة العدل الموريتانية - بخرق مبدأ صيانة حق الدفاع ومبدأ الحضورية، مبينة أن الفريق القضائي لم يبلغهم، ولم يبلغ موكلهم بالقيام باجراءات طلب التعاون القضائي الدولي من جمهورية تركيا، وتكريسا للاخلال بمبدأ الفصل بين السلطات في عهد "التعهدات" وفي سابقة خطيرة اعتذر ثمانية عدول منفذين عن تسليم رسالة هيئة الدفاع إلى الجهة المعنية، في تنازل صريح عن المهام التي أسندها إليهم القانون وكلفهم بها ! ليتلو ذلك رفض وزارة العدل نفسها تسلم الرسالة من طرف أحد المحامين التابعين لهيئة الدفاع، بما يمثل تكريسا واضحا وفاضحا لتغول السلطة التنفيذية وتجيير القضاء وإخضاعه لسيطرتها التامة.
ولا شك أنّ المتتبع لمسار ملف الرئيس السابق يدرك دون كبير عناء اصرار النظام على التعامل مع هذا الملف باعتباره ملفا سياسيا أبعد ما يكون عن القضاء وتحقيق العدالة، هدفه الأساسي اقصاء الرئيس السابق عن المشهد السياسي وحرمانه من حقوقه المدنية والقانونية، ولقد بدا ذلك جليا حين بدأ هذا الملف أول ما بدأ بخرق سافر لدستور البلاد في مادته 93، ليُعهد بعد ذلك به للجنة برلمانية غير ذات اختصاص في الأصل، وتحوم حولها شبهات فساد معروفة، وخصومة مع الرئيس السابق، فكانت هي الخصم و الحكم !
وتم تسخير أجهزة الدولة ومخابراتها وتسليط أدعياء الصحافة واعلام الحواضر وكتائب المتملقين، فهتكت الأعراض وسُلقت الناس بألسنة حداد وامتلأ الفضاء الاعلامي بالشائعات والفبركات لشيطنة الرئيس السابق ومحيطه، سبائك ذهبية تم العثور عليها مدفونة في الرمال عقب "غزوة بالنشاب" ، صفقة بيع السنوسي، مليارات الدولارات المخبأة في بنوك الامارات، وأخرى تم شحنها إلى مملكة سواتيني ومئات السيارات والشاحنات وناطحات السحاب …
تمت إحالة الملف وسط هذا الجو المشحون، وبعد عامين من الاستهداف الممنهج لشخص الرئيس السابق، الذي نعلم جميعا اليوم، أنه وحده من بين كل المشمولين في الملف، من تم سجنه سجنا تحكميا في ظروف قاسية كادت تودي بحياته، ويخضع اليوم لمراقبة قضائية مشددة حوّلت منزله إلى سجن تعسفي ظالم، في حين أنه من أبجديات العدالة لا يجوز التمييز بين من يخضعون لنفس الوضعية والمتابعين في نفس الملف، أحرى إذا ما علمنا أنّ الرئيس وحده من بين كل المشمولين هو من لا تتعلق وظيفته بالتسيير المالي أصلا، فضلا عن كونه الوحيد المتمتع بحصانة دستورية تمنع مساءلته إلا أمام محكمة العدل السامية !! بل إن الأمر وصل حدّ منع محام جزائري من الدخول إلى بيت الرئيس المحاصر للاتصال بموكله، في خرق فاضح للاتفاقيات الموقعة بين بلدان المغرب العربي، بل وفي خرق للقانون الموريتاني نفسه في مادته السابعة من التنظيم القضائي وخرق لكل الأعراف والأخلاق، بل قلْ إن الاجراءات القضائية في هذا الملف تم تعطيلها لأنّ هيئة الدفاع نفسها لم تستلم الملف كاملا إلى حد الساعة، ولا تعلم الحالة الصحية لموكلها بعدما مُنعت من الحصول على ملفه الطبي عقب وعكته الصحية الاخيرة!!!
وهكذا وبكل أسف انغمس هذا النظام في تصفية الحسابات السياسية، بدل المباشرة في تنفيذ برنامجه التنموي الذي بموجبه انتخبه الشعب وسلمه أمره، فكانت تلك السياسات مدخلا إلى تحويل البلد إلى دولة ريعية غنائمية وفريسة بين فكي الفساد وتعطل عجلة التنمية، مما أدى إلى تردي الخدمات الأساسية من ماء وصحة وكهرباء، وانتشار البطالة وغلاء الأسعار وانتشار الجريمة وغياب العدالة الاجتماعية … مع إصرار السلطة على تسيير الشأن العام وفق منطق الاستحواذ والاقصاء والاستخفاف بمطالب الاصلاح والتغيير!!
ولقد علّمنا التاريخ أنه حين يتم الدوس على دستور البلاد - الضامن الأساسي لحقوق المواطنين، ويتم الاخلال بمبدأ الفصل بين السلطات بتغوّل السلطة التنفيذية على السلط الأخرى، وحين يستشري الفساد وتغيب العدالة الاجتماعية، تكون قاطرة النظام قد بدأت فعلا بالدخول في نفق مسدود، ينتهي بالارتطام بجدار السقوط .
يبقى تراجع الحريات الفردية والجماعية ومضايقة الأحزاب السياسية وقمع الاحتجاجات السلمية … مجرد هروب إلى الأمام بمُسكّنات قد تؤخر قليلا موعد الاصطدام لكنها لا تُلغي أبدا حتميّة التغيير .
هذا الواقع يجعلنا اليوم نرى بعين اليقين أنّ ما تشهده الساحة اليوم من أحداث متتالية - إِنْ لم يبادر رأس النظام بتدارك الموقف والعودة سريعا إلى جادة الصواب - إنما هي ترجمان لقوانين التاريخ والطبيعة، ولن تكون ممارسات النظام القمعية وإعادة انتاج نفسه من جديد بمهدئات التدوير وسياسة "التراضي"، سوى مغالبة مستحيلة لقوانين ونواميس الكون .
لقد بدأ العد التنازلي لفرض التغيير .