بنشاب: في الأروقة الإدارية تتراكم أوجاع المنكوبين الذين يسوقهم نحس الطالع إلى التدحرج بين منعرجات المصالح العمومية، والضياع في أزقتها الملتوية، حيث يتفنن الذباب البشري في تفريخ فقه الكفر بالوطن والوطنية…الموظف الكبير يمارس سلطته بمزاجية مالك القطيع… وصغار الموظفين والموظفات يبالغون في احتقار المراجعين الذين تلجئهم كبرياؤهم، أو انحطاط مقامهم على سلوك الطريق الطبيعي دون قفز على بعض وقفاته، أو اختزالها، تمترسا بكبير، أو تبجحا بنافذ..استخفوا بشيبته، لم يرقوا لبدواته، ولم يرحموا براءته، جاء لتسوية استحقاقات مالية متراكمة عاجله التقاعد وبعد الدار عن معالجتها، استقر في حي شعبي. في المدائن الشعبية، ثمانينيات القرن الماضي (مدينة R ومدينة G وغيرهما)، تتحول بعض الدور إلى مستوطنات مزدحمة بالتلاميذ، والأسر الفقيرة، و بسطاء الموظفين، وصغار باعة النهار، وبعض المتدربات على إغراء الساقطين…فيها أيضا خلايا العمل السري، فهي الرحم الأولى التي تخلقت فيها الأجنة السياسية نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم خداجا، أوخلقا سويا…
من بيوت البؤساء تلك تخرجت أكثر النخب الوطنية، علمية وثقافية، وسياسية، وعسكرية…وفيها سافر النغم الجميل سحَرا، يذيب آلام المنسيين…يتعاقبون فيها المستوطنون على مرحاض واحد يخيل إلى داخله أن (كدية اجل)، أو إحدى أسنان جبل (آكرراي) تغطي فتحته…نعم هَرَمٌ من تراكم الرجيع…ما كان الشيخ القادم توا من إحدى المناطق النائية يتصور ما جرى له، خرج يصيح على أبنائه في مستعمرة البؤساء: (ألحقوني …
يا مسلمون ألحقوني …) وهو يخرج شبه عار…تحلق حوله أبناؤه لتنظيفه وهو يقول رغم حرجهم الشديد: جلست على كثيب نفايات باردة، لما رأيته أولا تخيلت أنها (عزبه تبلح)..بنته طالبة في معهد المعلمين تحاول أن تشوش على موجات بثه بالحوقلة والهيللة، حتى لا يتلقفها جمهور مختلط، ومنحط، فيه سخف، وفيه فجور، ويتخذ منها تسلية الشهر في أحاديث فضوله، لكن سلطة الشِّيب لا تتقهقر، وعزمهم لا يقهر، الشيوخ يملكون رخصة التحرك المطلق واقتحام المعابر والحواجز المملوءة حرسا شديدا وشهبا دون تخفيف للسرعة، فقد شاخت مكابحهم وفقدت ذاكرة قانون المرور…استمر الشيخ وهو يذرع الممرات، تسلمه مطبة لمطبة، في جمع ما توزعه كؤوس الشاي الثلاثة بإسراف وهي تمر على عشرات الشفاه المحملة بالفيروسات والجراثيم المسببة لأمراض الصدر، والتهاب الكبد، وغيرها من الأمراض السريعة الانتقال في مقاهي الإدارات…قالوا له يا أبانا إن هذا سلام انواكشوط عليك، وهو يغيب ليلا في أمواج سعال لا ينقطع، ويبيت يهذي والحمى تطبخ جسمه، وتدق مسامير الوجع الحادة في رأسه…
ظل صاحبنا كلما برم، وأنهكته رتابة الزمن الضنين، وهو يعود بوعد فاتر مخلوف، يموت على شفة اليأس المستمر، يقول محملقا في عين البعير: قالت الخنساء لما جئتهاشاب بعدي رأس هذا واشتهب.