بنشاب: هذه قضايا تثار من وقت لآخر وبأسلوب يتعاطاه المد والجزر كل بأسلوبه وغاياته ... ولا شك أنها حقيقة تستدعي الحوار البناء والهادف لوضع تصورات وبرامج فعالة وصارمة بعيدا عن المزايدات والملاسنات وتوظيف ذلك في توسيع الهوة بين شرائح المجتمع، سواء تم امتطاؤها من الداخل أو الخارج خدمة لمآرب وغايات، لا تنفعها إن لم تضر البلد بأكمله، وضرر البلد ينعكس على الجميع خصوصا في ظرفية دولية معقدة، باتت قوى الشر العالمية تبحث عن استعمار جديد في شكله وممارسته وتحييد الاخر بشغله في نفسه ...
الحاصل عندي أن القضية تعنينا جميعا، وليس لأحد أن يخول نفسه كمتحدث باسمها وحام لها دوننا، ولن نزايد في ذلك، فالتاريخ شاهد والأحداث شاهدة، والجديد هم الانتهازيون الذين يتاجرون بمثل هذه القضايا ...
لن أتكلم عن نضال الستينيات ولا السبعينيات ولا عن أقسام التوعية والتوجيه التي أقامها الشباب نصرة للمظلومين، ولكني، لا استطيع رمي ذلك كله ورفع صوت من كان غائبا وقتها أو مغيبا، ليخلق مني عدوا يستمري به ود الغوغائين والغائبين عن مشهد الأحداث ... كنا ولا نزال أحرارا نطالب بالحرية، ونطالب ولا نزال بالعدالة والمساواة، وبتعميم الصحة والتعليم وبالكفاية في الانتاج والعدالة في التوزيع، ولا شك أن بعضا من نتائج نضالنا تحققت وبقى الكثير مما علينا فعله ومتابعة النضال فيه، بشكل يتلاءم وتطورات الوسائل، وهنا ادرج نقاطا سبق أن كانت محاور رؤيتي وتصوري وهي في اعتقادي، أمثل الطرق للتغلب على العوائق المطروحة ... فالماضي منقطع على نفسه ولا أحد يتحمله ولا يتحمل سقطاته، والتاريخ يغير للمستقبل وللأمام، لا للماضي وللوراء ... والنضال ضد العنصرية والفئوية والطبقية نضال متكامل لا يقبل التجزئة والتسظي، ولا الانتقاء الفئوي والشرائحي ... إنه مبدأ إنساني متكامل ومنسجم ومتناغم، وإلا فهو عودة لماض ممجوج ومتجاوز ولا يقبل به كائن من كان ... نحن جيل يتبنى الاشتراكية هدفا لحل مشاكلنا الاجتماعية، فنحن بطبيعتنا أعداء للإقطاعية والانتهازية وفق نظرة واعية وعميقة لمشكلنا في جوهره السياسي والاجتماعي
1) ظاهرة الاسترقاق نتاج تاريخي لصراع طبقي، كان المسؤول عنه ـ الأول والأخير ـ همُ الإقطاعيون والمستغلون، ونحن من جيل يتبنَّى الإشتراكية ويصنف نفسه في الطبقة البروليتارية، ونعتبر التحالف الرأسمالي والإقطاعي تحالفا معاديا لأهدافنا ونضالنا، لكننا اليوم في عصر تشاع فيه الحريات بين من يتبناها أصلا، إذ هي من صميم رؤيته الإيديولوجية، وبين من كان مرغما بفعل ضرورة التغريد داخل السرب، لقد ناضلنا ـ بمختلف أطيافنا السياسية ـ كل من موقعه، وتطوعنا في المدارس الشعبية، وشكلنا الخلايا لمحو الأمية، وكان لذلك نتائجه وثماره، التي نراها اليوم، وهذا المجهود ومثله، هو القادر على التغيير الفعال في مجتمع تهدده الأمية ويعبث به الفقر..
2) لا أوافق ـ البتة ـ على التعيين الفئوي الشرائحي، بما في ذلك ما يقدم ـ سدا للذريعة ـ للشباب والنساء، رغبة في تحسين قطاعيهما، أحرى بالفئات الأخرى، لأني أراه نمطا من سن وتقعيد وتجذير الطبقية وإن اختلفت العناوين والمقاصد، فالتعيين، يجب أن يكون وفق الكفاءات والمؤهلات، ولو اجتمعت في نمط فئوي واحد، ذلك هو منطق العدل والامتياز الفطري والإيجابي الطبيعي... نعم، تلك مسؤولية الدولة في تكافؤ الفرص، ولكن الدولة في النهاية تمثل نظاما من نتاج المجتمع الذي لا يزال رهين الجهل والفقر ويئن تحت وطأة الليبرالية، التي تزيد الغني غنى والفقير فقرا.
3) تكمن معالجة هذه الظاهرة في الجانب الاقتصادي، فالفقر، ظاهرة اجتماعية موجودة في كل أنواع المجتمع، ومحاربته في طائفة دون أخرى هو نمط من الظلم والإقصاء قد يولد صراعا وفق صياغات جديدة أكثر تعقيدا، لكن معالجة الاشكال ضمن رؤية تنموية شاملة، يحل القضية من جذورها، فوجود الدولة القوية والمتقدمة، يجعل الجميع تحت مظلة واحدة تحمي المواطن، أيا كان لونه أو أصله، وبالتالي، تزول الطبقية وملحقاتها من قبلية وفئوية وكل أنماط التكتلات ذات الطابع الإثْني والعنصري .
4) إن الصحة والتعليم ركيزتان تشكلان أساس التنمية والاستثمار الاقتصادي، والتركيز عليهما يحل كل المشاكل ذات الطابع الفئوي... فصب الجهود نحوهما يخدم القضاء على مخلفات ظاهرة الاسترقاق المعنوي منها والمادي، فلنعمل على تحسينه، وهذا جانب نتحمله جميعا إضافة للدولة، فينبغي لنا أن نفكر مع الدولة في الآليات التي تحسن من وضعية هذا القطاع وتحسين أدائه... ثم إني لا أوافق الذين يرون الرأي المتعلق بمدرستي الإمتياز والثانوية العسكرية، فولوج هاتين المدرستين، يتم عن طريق إجراء مسابقة والمسابقة لا تعترف باللون ولا الطعم ـ أو هذا ما يجب على الأقل ـ وإلا فتح الباب على مصراعيه يوم الامتحان، لكل الفئات، كل فئة تحمل بلداءها، فتزيغ وتحيد المؤسستان عن أهدافهما أصلا ويضيع المشروع. ولكن الاعتناء بالتعليم عموما جزء من حل المشكل.
5) نعم، ما كان من وجود ظاهرة الرق والاسترقاق في الماضي عمل يندى له الجبين وتمشمئز منه النفس البشرية السوية، ولكن هذا كان، مثلما كانت العشائر المتناحرة، ومثلما استلبت قبائل وأبيدت أخرى، ومثلما استعمرت موريتانيا بأكملها، وناءت بتبعات ذلك الاستعمار ردحا من الزمن،فليس من الضروري في عصرنا اليوم أن تتبادل هذه القبائل وتلك التي أبادتها أو سلبتها أكاليل الزهور وعبارات الاعتذارات كتعبير عن حسن النية، ولا موريتانيا وفرنسا، وإنما تبقى تلك الجرائم ـ على بشاعتها ـ جرائم مثبتة ومسجلة ضد مجهول وإلاَّ ، سَتُنْكَأُ جراحٌ نحن في غنى عن نَكْإِها، ثم إنه في الأمر تداخل وتشابك، ففي ماضي ظاهرة الاسترقاق، شارك الكل في إيجادها، من عرب وزوايا وزنج، لأن بعض الزنوج باعوا أبناءهم عن طيب نفس، واليوم نجد بعضهم يضرب عرض الحائط بمصلحة أبنائه متنازلا عنهم، ليتحمل آخرون عبء معيشتهم، قد يكون ذلك نتيجة الفقر، فله العذر منا، لكن هناك من لا يقبل منه العذر، هو أبناؤه الذين أوجدهم في هذه الحياة ولولاه ما وُجِدوا، فينبغي أن يساءل كل واجد عن موجوده، وهذا جانب من بث وتوزيع الاسترقاق ومخلفاته جدير بالاهتمام والتنبيه. ثم إنه لا ينبغي تجاهل هذه الظاهرة ـ وربما بشكل أكثر وقعا ـ في المكون الآخر ( الزنوج الأفارقة) من بلار وولف وسراقل، فلما لا تناقش بنفس الريتم؟... ثم إن لدينا ما يسمى آدواب، ولا نراهم أحسن حالا ـ إن لم يكن أسوأ ـ من أولئك الذين عاشوا واندمجوا في المجتمع، فالفرق بينهما شاسع علميا واقتصاديا
وفي الختام، هذا مشكل من نسميهم بالحراطين والذين يستحيل فصلهم وعزلهم عن نسيجهم المجتمعي مما يسمى بعرب موريتانيا، مشكلهم مشكلنا وحلحلته انجاز لنا قبلهم والتمييز فيه بيننا وبينهم تعسفي وانتهازي ... ولن يكتمل بناؤنا ولا تقدمنا إلا بالتغلب على عوائقنا الاجتماعية وكثيرة غير هذه، لكن السماسرة السياسيين، يلعبون على البضائع الأكثر رواجا ...