بنشاب: من عادات مجتمعنا في بعض مناطق البلاد أنه إذا كان طالب يد الفتاة غير قادر على دفع كامل المهر، وتحمل مصاريف حفل الزفاف فإنه يتفق مع أهلها على أن يتم العقد ويدفع ما بيده من المهر وقتها فيتم الزواج، على أن يدفع باقي المهر ويقيم حفل زفاف من جديد إذا أصبح قادرا على ذلك ماديا، حتى ولو كان ذلك بعد سنوات وكان الزوجان قد أنجبا أطفالا، ويطلق هؤلاء القوم على تلك التكاليف الجديدة مصطلح ” وَسْخ الراص “، وليس الهدف من ذلك الحفل إعلان الزواج لأنه سبق وأن أعلن ونتجت عنه أسرة وأطفال، وإنما يكون الهدف منه ” إعلامي دعائي” ليشيع في الحي أن أهل فلان الذين لم يستطيعوا تكريم ابنتهم بحفل زفاف ها هم يقيمونه لها الآن كقضاء فائتة.
أقام عدة وزراء في حكومتنا قبل أيام ” حفلا ” للإعلان عن تسوية ديون الكويت على بلادنا، وأختير للمناسبة وزير الشؤون الخارجية والتعاون السيد اسماعيل ولد الشيخ احمد للإيحاء بدور للدبلوماسية في هذا العمل، وبالمناسبة هو نفسه وزير الخارجية الواقف عند ظهر وزير الشؤون الاقتصادية السابق المختار ولد اجاي بمباني وزارة المالية الكويتية وهو يوقع اتفاقية تسوية الديون خلال زيارة للرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز للكويت يوم 23 ابريل 2019، ثم وزير المالية السيد محمد الأمين ولد الذهبي الذي لم يكن بالبعيد عن الموضوع حيث كان يوم توقيع الاتفاقية أحد أهم أركان القطاع المالي، ثم وزير الثقافة الناطق باسم الحكومة لكي إذا ما نسي، أو قصر، الوزيران في التنويه بدور النظام الحالي في تسوية هذه الديون يقوم هو بالمطلوب..
ما كنت أنوي التعليق على قضية تسوية هذه الديون ليقيني باطلاع الجميع على مسارها ومراحل تسويتها، والحضور العقلي والجسدي للشهود الكثر على تلك المراحل، وبدون الخوض في ماضي هذه الديون سنبدأ من حيث بدأت جهود تسويتها بشكل فعلي، وخُلق لها إطار للتفاوض وأصبحت مطروحة في كل اللقاءات الرسمية بين البلدين، حيث كانت على جدول أعمال زيارة أمير الكويت الراحل المرحوم الشيخ صباح سالم الصباح خلال زيارته لنواكشوط يوم 13 اكتوبر 2010 بدعوة من الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز، ثم إنشاء لجنة التعاون المشتركة بين البلدين سنة 2012، وتواصل التفاوض حول هذه الديون بعد ذلك في كل المناسبات اللاحقة، إلى أن أثمرت تلك الجهود توقيع مذكره التفاهم ابريل 2019، ولا مسؤولا رسميا ادعى يومها أنها مذكرة لإلغاء الديون، فقط إعفاء النسبة الأكبر من فوائد الدين، واستغلال النسبة القليلة المتبقية منها كاستثمارات كويتية، والإبقاء على أصل الدين وجدولة تسديده، وما حصل اليوم هو مجرد تطبيق لجوهر تلك المذكرة، وإن كانت هناك إضافات فهي تفاصيل ولمسات بسيطة تركها موقعو المذكرة للبحث اللاحق، فلم يُعلن عن مراجعة للمذكرة، ولا عن مفاوضات جديدة، ولا توقيع اتفاقية غير تلك الموقعة أصلا.
أقول ما كنت أنوي التعليق على هذه الحدث لولا محاولة البعض اللعب على عقول المهيئين للعب على عقولهم منا، والجعل من الأمر فتحا مبينا ومعضلة استعصت على كل الأنظمة المتعاقبة ( هكذا سموها ) وأفلح هذا النظام في حلها، مستغلين ضعف الذاكرة أو إخضاعها للغسيل و ” الصباغة ” بالمغالطات السائد هذه الأيام، والصمت المطبق لمن عرفناهم في السابق ( أعل النيشان ) للتعليق على كل صغيرة وكبيرة وتفنيد كل شيء حتى ولو كان حقيقة فما بالك إذا كان مغالطة، إذ لا ديك صارخ اليوم بحكم قوة صرصرة ” باز الدرهم “! نعم، اعتبار الديون معضلة استعصي حلها على كل الأنظمة المتعاقبة، وأيضا تصوير الموضوع وكأن دولة الكويت كانت تُحاصرنا إلى أن نسدد لها ديونها كما ذهب الأمين العام لوزارة الاقتصاد الذي كتب يقول ” فها هو التاريخ يعيد نفسه ولكن بطريقة ليست بالأقل لأن الأمر يتعلق بإعادة الثقة وبنائها بين هذين البلدين الشقيقين من جديد تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني حيث أعاد البلد الشقيق إلى صفوف البلاد الداعمة لاقتصاد بلدنا بمراجعة ديون ساهمت في البداية في دعم اقتصاد البلد وها هي اليوم تعود بقوة لتساهم مرة أخرى في تنميته ”
وما يهمنا في هذا الكلام هو تركيز صاحبه على عبارة ” عودة الثقة ” بين البلدين وكأنها كانت غائبة، و ” عودة الدعم التنموي ” وكأنه أيضا كان غائبا! نعم حاصرتنا دولة الكويت لكن ذلك كان بداية تسعينات القرن الماضي على إثر موقف موريتانيا آنذاك من حرب تحرير هذا البلد من الاحتلال العراقي، ولم تحاصرنا الكويت وحدها بل كان حصارا خليجيا دام لأكثر من عقد، لكن الثقة عادت من جديد قبل اليوم بأكثر من عقد من الزمن كذلك، ولم تعد تلك الثقة مع دولة الكويت وحدها بل وعادت مع كل بلدان مجلس التعاون الخليجي وخصوصا بلدانه الفاعلة فيه والمشتهرة بمواكبة ودعم التنمية في بلادنا، فقد عادت الثقة إلى جانب دولة الكويت مع المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة، عادت تلك الثقة وعاد الدعم والتمويلات من طرف هذه البلدان برحيل النظام الذي حاصرته، وكانت بدايات تلك العودة أيام الرئيس الأسبق المرحوم سيدي ولد الشيخ عبد الله حيث ساهمت العربية السعودية في تمويل تطوير الجيش الوطني بمبلغ 50 مليون دولار هبة، وقدمت 20 مليون دولار لجهود إعادة إعمار الطينطان هبة كذلك، وحيث كان لولد الشيخ عبد الله علاقات خاصة مع الكويتيين كونه عمل في بلدهم كموظف بإحدى الهيئات الاقتصادية الإقليمية.
غير أن الثقة والدعم التنموي بين موريتانيا وبلدان الخليج، ومنها الكويت، بدأ ازدهارهما ووصولهما لحد العلاقات الاستراتيجية مع وصول الرئيس السابق محمد ولد عبد العزيز للسلطة، والدعوات المتعددة التي تلقاها من هذه البلدان لزيارتها والاهتمام الواضح والحفاوة اللذين تلقاهما فيها، وكانت الزيارة الثانية لأمير لدولة الكويت لموريتانيا منذ السبعينات زيارة الأمير الراحل الشيخ صباح سالم الصباح أكتوبر 2010، ومنذ ذلك التاريخ فتحت دولة الكويت ذراعيها وصناديقها أمام موريتانيا، بحيث لن تجد اليوم مشروعا من المشروعات التنموية الهامة التي أنجزت في البلد خلال العشرية الماضية إلا وهي تمويل كامل أو بنصيب أكبر من الصناديق الخليجية والكويتية خصوصا، سواء في ذلك المشروعات المائية الكبيرة في العاصمة نواكشوط وفي آفطوط الشرقي وأظهر، أو في مشروعات الطاقة الحرارية والشمسية والهوائية التي وصلت بالبلاد إلى الفائض الطاقوي ونقله وجعلت النظام الحالي لم ينفق، وليس في برنامجه إنفاق أوقية واحدة لإنتاج الطاقة لعدم الحاجة إليها.
ونفس الشيء لا تكاد تجد طريقا من آلاف كيلومترات الطرق التي شُيدت خلال هذه العشرية، باستثناء طريق نواكشوط ـ روصو، أو الطرق التي كانت على نفقة الدولة، إلا وللصندوق الكويتي، أو الصندوق العربي للإنماء الإقتصادي والاجتماعي الذي يوجد مقره في الكويت النصيب الأكبر من تمويلها إن لم يكن بتمويل كامل من هذين الصندوقين، سواء الطرق التي تم إنتهاؤها، أو تلك الجاري بناؤها اليوم كطريقي بوتلميت ـ آلاكّ، والنعمة ـ انبيكت لحواش، أو تلك التي مُنحت صفقات إنجازها كطريق تجكّجه ـ غابو.
هذا إلى جانب العديد من التمويلات في عدة مجالات حيوية أخرى خلال هذه الفترة، كتمويل بناء الحرم الجامعي بجامعة نواكشوط، والإسهام في تمويل مشروع عمليات صندوق الإيداع والتنمية، وتوسيع شبكات الجهد المتوسط في المناطق الجنوبية الشرقية، وتجهيز مطار نواكشوط ـ أم التونسي الدولي بأجهزة الملاحة الجوية، وهذه كلها تمويلات لا تنم إطلاقا عن حصار كانت الكويت تضربه على موريتانيا وتم رفعه اليوم بتسوية قضية الديون ب ” الإشراف المباشر لرئيس الجمهورية السيد محمد ولد الشيخ الغزواني “! كما يدعي الأمين العام لوزارة الإقتصاد، وهي أيضا تمويلات لمشروعات قائمة الذات خدمت بنية الدولة وحياة المواطن الموريتاني بشكل ملموس بالنسبة لألئك الذين سمعوا، عبر تاريخ البلاد، عن قروض وتمويلات ولم يجدوا لها أثرا وتعودوا التساؤل فيم أنفقت هذه التمويلات والقروض..