لحن الرحيل مجددا وداعا أمُّ —-عزيزة

سبت, 21/09/2024 - 20:21

بنشاب: ونحن ننتظر في طوابير الوهم النابضة بالزيف، تسحقنا أزمات التلاشي البطيء، في عالم يضيق علينا بما رحب مع كل صعقة حقيقة تضرب بصائرنا الزائغة، فنهرع إلى جراحنا الغائرة ننبشها بحثا عن وجع ينسينا ألم الزوال الذي يدب في حواسنا مع كل لحظة إدراك لكم الفناء الذي نعيش.. 

ولطالما جدد لي الرحيل الأبدي المفاجئ لحظة الإدراك  تلك، في صفعات قاسية تخلد انقشاع سراب عالم الزيف هذا، في دوامة تعصف من حين لآخر بروحي الهزيلة المثخنة بوجع الاغتراب منذ فترة طويلة.

قبل ساعات وردني اتصال وجدني في لحظة صفاء عابرة، وانغماس تام بتفاصيل الحلم المعلق بغيوم المجهول، لينزلني منازل الوجع التي خبرتها روحي جيدا، حيث نعى الوالدة والخالة أمو بمنت محمد موسى، و قال لي المتصل المرحومة أمو لابد أنها تقربك كثيرا! سكتت ثم تلعثمت وأنا أعدد له قرابات لست متأكدة منها.. نعم أمي ..جدتي.. عمتي .. زوجة خالي.. خالتي.. لا أدري! 

وحقا عجزت عن تحديد صلة القرابة بالضبط و لا أهتم بتحديدها ومن يستطيع تحديد قرابته بتلك الروح العذبة، من يستطيع خلع سحر تلك الإبتسامة الأخاذة وابداله بقرابة باهتة ؟ هي روح وقعت في غرامها منذ فتحت عيني في هذا الأفق المنطفئ .. دون الرجوع لتأصيل علاقتي بها.. لا قرابة أقوى بالنسبة لي من تذكر عينيها وابتسامتها و هي تترع لي كؤوس الحب.. نعم محض الحب الذي تشحنني به عبر كلماتها الطيبة و صوتها الدافئ ولغة جسدها الظريف و دعواتها الصادقة ورقة حضورها وجاذبية هالتها النورانية العظيمة..

ما هزني كان أكبر و أعمق من مجرد رحيل فرد واحد، فقد سحقتني الذاكرة بقسوة، حين استحضرت أحد  المجالس الكثيرة التي جمعتني بالمرحومة، وذلك حين كنت طفلة بجديلتين  في منزل جدي بحي بغداد قبل عقدين من الزمن، وكنتُ قرب الباب ألعب بدراجتي والجميع في باحة المنزل بعد صلاة العصر، يضحكون و يتحدثون: أميني ولد محمد موسى.. محمد الإمام ولد آب.. محمد الأمين ولد النون.. محمد عبد الله ول معروف ول محيي الدين .. الحسن ولد اشويخ.. محمد عبد الله ولد أشبيه .. أحمد ولد حمين..دعلاهي ولد سيدامين.. علي ولد المختار البي.. آمنة بنت حمين.. أمو بنت محمد موسى ..الشاش بنت المامي.. توتُ بنت أباه.. و فجأة ساد الصمت وخف الضجيج، فقد عصف الموت بكل تلك الوجوه واحدا تلو الآخر، هكذا كلقطة من فيلم سينمائي أجلس وسط ذاكرتي أشد على  مقبض دراجتي و أنا أشاهد ذلك الغياب يلتهم الأحبة الواحد تلو الثاني بمشاعر الطفلة و وعي البالغة، حتى بقيت في نفق العبور شبه وحيدة.. 

كان وجه المرحومة الأبرز، فقد كانت من الذين أطيل النظر في وجوههم السمحة، كما كانت آخر من التقيه منهم، وقد ملأني التساؤل من سيغسلها وهي التي وهبت عمرها بإتقان غسل وتكفين كل مسلمة سنحت لها الفرصة بجني أجر تجهيزها على أكمل وجه وبإتقان لمأواها الأخير؟ وتذكرت كيف شجعتني على مواصلة نفس النهج حين طلبت منها إحدى القريبات نصحي بالعدول عن المشاركة في تلك اللحظات الحاسمة في بيت الغسل، حيث يتلاشى كل زيف و تتجلى الحقيقة على بلاط الوجل والوقوف عند مسافة الصفر من مصيرنا المحتوم، وقد همست المرحومة بأذني وقالت: ( الله إطول عمرك ذ الا الأجر لاتصنتيلهم، ذاك استعريب جايبتيه منا نحن وضحكت).

اللهم لا اعتراض على حكمك، اللهم أدخلهم فسيح جناتك و رمم تشققات روحي المغتربة في صحراء العمر الباردة، اللهم إنهم نزلوا ببابك فارحمهم رحمة تنسيهم بها ابتلاءات الدنيا و بؤس أيامها وحسرة القدوم إليها ووجع الرحيل عنها. 

اللهم ارحم خالتي أمي البشوشة اللطيفة العالمة الزاهدة الصابرة المحتسبة المحسنة بنت العلماء و القضاة و أم العلماء القضاة أمو بنت محمد موسى و أدخلها فسيح جناتك، وخالص العزاء لعائلة أهل محمد موسى و لبيتنا أهل محمد الإمام و إنا لله وإنا إليه راجعون.