لم أر الوادي حين كان يهيج فيحمل في طريقه الحرث والنسل، ولا أستغربه كذلك ففي أرضنا القاسية تعطش البطاح أشهرًا وأعوامًا حتى تكاد تيأس من رحمة السمّاء فتنهمر عليها المزن كأنها تعتذر عمّا فات، أو تنتحب عمّا هو آت.. فتجري الجداول وتمتلئ الغدران وتغتسل الكروم وتصحو الضفادع.. ويحدث في كل جيل أن تتظافر الرّوافد فتغدو سيولا فتتذكر المسارب القديمة وتكتسح سواقيها الرّميمة فتجرف ما تراكم فيها من أكواخ وزرائب وبشر وأنعام.. لم أر جدّي حين سايس الوادي كما يسايس الأحصنة ليطوّعه، ولا رأته أمي وإخوتها حين كانوا صبية في دعة من العيش في دارهم بالرياض، قبل موسم الخروج الكبير من المدينة القديمة المحصنة بالأسوار إلى الفيلات والدور الفسيحة بالأحياء الغاربة، حجة العيش الرغيد والترف.. لم أره حين أتى برفاقه في الجيش وبأحمال شاحنات من صخر الجبل الأزرق، ليمد القنوات ويرصف الطرقات ويقيم أركانها حجرا صلدا ويكسوها حديدا وإسمنتا، لكنني رأيت درب الوادي الذي ملأه بالحياة بعد الرّكام، وجدار المقبرة الذي أقامه بين الأحياء والأموات، ومضخة النافورة وسقيفة السويقة وصومعة الجامع وبيوتا ودكاكين… ثم ها أنتم تنكرونه كعادتكم، أم لعلكم نسيتم الباني حين طال غيابه فرفعتم المعاول بينكم من بعده، وعدتم إلى طبائع العريب. وأنا الحفيد أتيت لأجوب أركان حدائقكم المُسيجة وصدوركم الحرجة. لا أطلب ميراثًا بل أريد أن أسقي زيتونكم وأرقص في أعراسكم.