في يوم من أيَّام الله العادية، انطلقت ربَّة البيت التي هيَّ أنا، صوب سوق العاصمة (مرصت كابتال)، في روتين اعتيادي لجلب مستلزمات أسرية للنظافة البدنية، ذِهني التِّجاري يميل لشراء المُستَهلَكات بسعر الجُملة، فمنها ترشيدٌ للمال وفيها توفيرٌ للوقت والجُهد، كما أنَّ التسوق يظلُّ أمْتَع رياضة مزاجيَّة للمرأة،.. علمًا أنَّ زيارة تلك السوق اليوم، أُفَضِّل عليها خَلع ضِرس من دون مُخدِّر، فقد تحوَّل المكان من حُلم عتيق بأن يكون مَعْلمة سيَّاحية إلى «قِلَّةِ أدبٍ حَضرَّية»، في شكل سَوْءَة بدائيته، لا يتطلب اكتشافها كفاءة مَدنيَّة عالية،..
"مرصت كابتال" وما جاورها، ارتدَّ إلى حَيِّ صَفيحٍ مُخجل، يُمارِسُ الوشاية بالبلدية المنحوسة علنًا، فقُبحه يُرشد إلى خطيئتها،.. وهُنا أتساءلُ دومًا، ألم ترَ العُمدة في مأموريات عُموديتها الطويلة صُورَة مركز المدينة المَسيخ بحَجمها الطّبيعي؟، ألاَ تُقدِّرُ أنَّها ليست صورةً للغد، وأنها تَحجِب كل أملٍ في التَّحضر؟، ألم تَسْتَدعِ منها طرح تساؤلات في شكل احتمالات قُدَّامَ الانتخابات؟
سأواصلُ سيري،.. وقبل وصولي لمَسعايَ، عَلَيَّ اختراق طوق من عرَائش الكرتون والنفايات، ومن أخبية القماش والعربات،.. عرباتٌ مُستَجْلبة من مطلع القرن المُنصرم، من نفس الكهف الزَّمني للفوج الأخير من حُكَماء "سَنِي" الميامين،..
أين وصلتُ؟.. ، طَرف السُّوق!،.. هناك الاكتظاظ بمقاس مُزعج، ضجيج يَرْطُنُ بكل لهجات إفريقيا، كلماتٌ نابية وتحرُّش لفظي صريح من خَليطِ الهائمينَ فيها كالهَوام،.. لم أعد أستغربُ إنْ أنَا صادفتُ ابن عشرٍ يُغازل سبعينية بكلام مُختلّ المقادير، أو يَحتكّ بمؤخرة تسعينية من سلك الرَّاهبات، والمُبرّر المُتغافل جاهز: «ضيق الممرات وازدحامها»، فقد احتل الباعة حد الاختناق مُحيط السوق خلال نوبة نومٍ غير انتخابية للبلدية..
على الأرض، سأنشغلُ بالفَكاك من البول المُعتَّق، و"الحش" المُتعفِّن، ونفايات زيت القلي، وأوساخ غسيل الأحذية المستعملة،.. لقد أحرزت هذه السوق بجدارة سوءً كَمِّيًّا ونوعيًّا، وحالها عَسير الفَهم والهَضم.
ما زلتُ أحثُّ فيها الخطو نحو هدفي،.. أستنفرُ زوجين من الأعين، واحد للسَّير إلى الأمام، وواحد جانبي كالسِّحْلية لمراقبة "تنطّطاتْ تُوك تُوك"، وأضع يدي على قلب محفظتي لأُطمْئِنها، فالمنطقة أقرب إلى مَحطّة نقل في كلكتا الهندية،.. والسوق نفسها استهلال لرِجْسٍ من الأسواق البدائية سيمتدُّ بأفعُوانيَّة حتَّى "سيزييم".. والمضحك أن ذاكَ الرِّجس هو أكبر مركز لحركة المال في عموم البلد.
سيُصادفني على طَرَف الرَّصيف جَمْعٌ من "أمن الطرق"، وقد سَلَّمَ الأمْن والأمْر لله واستسلمَ، وجَمْعُ عُمَّالٍ مُتهَندِم بصدريَّات البلدية الصفراء، ومتكوِّمٌ في استرخاء في سيارتها،.. فأتمنَّى لوْ استَوقفتُ الجَمْعَ الأول لأُذكِّره بعلِّة وجوده أصلاً، وأتمنى أنْ استَـلفِتَ الجَمْعَ الثاني إلَى كونِي أخْجَلُ له، "فَعَليْه رُوح" السُّوق ولَعنات المُتسوِّق..
ابتَعتُ حاجتي وقفلتُ عائدة مع نفس الممرَّات المُبلَّطة بكل المَقْذورات، أكرِّرُ التَّحسر على البَهائم البشرية التي هيَّ نحنُ، وعلى اللوحة السّريالية المُتسافِلة هَمَجيّة.
وصولاً إلى البيت، اكتشفتُ في أغراضي كيسًا بلاستيكيًّا مليئًا بتوليفة مُتكاملة من مواد التبييض وتمليس الشعر، استغربتُ، فهذه بالذَّات ليست من قُوتِي الكيميائي، لم تَألفها روحي يومًا، رغم وُعودها السحرية بِ "لبياظْ واتشوبيب"، .. لستُ من أنصار إعادة الخلق والخلع المُصطنع، ولا أرغب في رسمي بغير بألوان الخالق،.. إذْ آمَنُ إلى الإبقاء على صيغة صُنعي الفطرية رغم كثرة "اشگارتي" الفنية عليها، .. تأمَّلتُ في المكتوب على عُلَب الكيس، فوجدتها تُبشِّر بتبييضِ فيلٍ افريقي في أسبوع، وبِبَعث جَدائل حِجازية في لحظات.. طَبْطَبتُ على كَتفِ وَعْيِي المُتَحسِّر، أنْ اهْدأ، فالجَمال في مدينتنا المَنْكودَة كالحُب، فكَمْ قدَّما على المذبح من شَهيدة وقُربان، ولوْ بالحَرْقِ والسَّرطان!.
في اليوم الموالي، وفي نفس التَّوقيت عُدتُ إلى السوق أحمل حِزمة المُهْلِكات، لعَلِّي أقف على خبرها وَأعيدها لأهلها .. كانت الاحتمالات تتأكَّدُ تجاه حانوتين، فاقترعتُ عليهما، أوَّلهما صَرَّح أنه لا يَبيعها، فدلفتُ إلى الثَّاني الذي وافقَ تَخمينَ القُرعة،.. قدَّمتُ الكيسَ والتَّوقيتَ وتفاصيل الحادثة، وطلبتُ مُراجعة الكاميرا لتثبيت روايتي أو تفنيدها،..
في الأثناء دخلت علينا شلّة مُراهقات من الهالبولار، أفشينَ جوًّا طفوليا فوضويا ولطيفا، لكنه شتَّتَ مع الوقتِ تركيز القَيِّم على المحل، المُنشغل بالبحث عنِّي إلكترونيا، وكُلّما نَهَرهُنَّ صَعَّدنَ صَخب الضَّحك وَأطْنبنَ في الاستفسار عن الأسعار بنبرة هزلية.. وكان يُعلِّق على صُوَرِ الكاميرا بصوتٍ مُرتفعٍ، زائغٍ، فيه مَلامح النَّقل المُباشر "لصَحافَة" المِنَصَّات: «أراعييييك أوگفتي هُونْ، وراعييييك اكحزتي هوكْ»، فزاد ذلك من تهكُّم المُراهقات.
أظهرتني الكاميرا وأنا أنْقده حقَّ بضاعته، ثم أظهرتني حين "اطَّوْبَصتْ" على كيس أزرق فوق "القنْطوار"، قد جَمعت مُحتواه فتاة كانت تقف بجواري، وخرجتُ أحمله.. فقلتُ للبائع مُمازحةً: «إذن ثبتَ بالدليل أني لصَّه حَمره»، وضَحكنا ضِحكَ شَخصينِ "مُتَـفَالِشَيْنِ"، .. اختنقَ الحِسُّ الرِّقابي لدى الرَّجل من بهلوانيات الشِّلة في دكانه، فصاح عليهن بالخروج، وبترك بضاعته،.. فاندلع بينهم اشتباك لفظي استبيح فيه سِبابٌ غير وُدِّي، وكنتُ محشورة بين خطوط نيرانهم،.. ردَّت الفتيات بما معناه أنهن يحملن المال ولا يسرقن بِطبعهنَّ، وأنَّ عليه ألاَّ يَقيسهُنَّ على "السَّارقة" التي تقف بمحاذاته، والتي ضبطتها الكاميرا، لكنَّها لِصَّة بيضاء!... وكُنتُ المعنية!
أُسقِط في يدي!،.. وطلبتُ من الرجل التَّوقف والتعقُّل وترك المُراهقات وشأنهن،.. وقد أشْعلَ حُمقه حُنَقهن، لكن المُفارقَة العبثية أنَّ تدخلي المُسالم استفزَّهن أكثر، فصوَّبن نحوي الكلام والأصابع والنَّظرات المُوبِّخة، مع سُيولةٍ من الصِّيغ التي تُفيد نُعوت السرقة بالحسانية والبولارية والفرنسية، فأيقنتُ أنّه يوم شُؤم طالعه على سنام نجمٍ نَحسٍ.. ومع ذلك التمستُ لعُمرهنَّ العُذْر في اقحامي في المعركة نكاية "بالوگَّاف"، فمظنَّة السَّرقة في الخيال مَثْلَبَة كُبرى، أمَا وقد قيَّض الله لهُن حالتي، وكانت "المَسروقات" في رَحْلي ومُوثَّقة بالصّورة.. فذلك عدلٌ وفضلٌ من ربِّ العالمين ساقه إليهن في الوقت المُناسب.
في جوٍّ استثنائي، جلستُ على كرسيٍّ جانبي في انكسار مُذنبٍ مُثيرٍ للشَّفقة، قد تَابَ لتَوِّهِ وأنَابَ، دفنتُ لساني في حلقي أحتَمي بالصَّمت، وأسأل الله سُترًا يحفظ ماء السَّكينة، ويُنهي المعركة في جوف الدُّكان، لكيْلا تتفلَّتَ فَيَلتفَّ حولنا غوغاء السّوق، فحينها سوف "تِتْوشوشْ عَمْتي" بامتياز، وخصوصًا أنِّي لن أسعى إلى شرحٍ نَفْسي المُلتبسة عليهن.. انتظرتُ قرابة ثلث الساعة، حتى أضمن انسحاب كتيبة المشاغبات من المحيط،.. وكنتُ خلالها شاردة استذكرُ مرارة الشُّعور بالتُّهم الجزافية، فقد أحسستُ ذات يوم مثلهن أَلَمَ الطَّعن في رُشدي، حين اكتشفتُ أنَّ عاملاً في أحد المُجمَّعات التّجارية المحلية يقتفي أثري بين الرفوف، ويُراقبني توجُّسًا!،.. مع يقيني أنَّ "ذاكْ سابگو شي".. ألَهذا الحد يُتوقَّع مَيَلاننا؟.. نعم، تذكُّرتُ، وأنصفتُ شَراسة ردِّ الفتيات على ظنون البائع المعيبة،..
سأكتشف أيضًا، أنَّ الحادثة هِبَةٌ من السَّماء لصاحبِ الدُّكان ومساعده، كَسَرا بها -على ما يبدو- تَراكم سَنة من "استحفي" المُزمن، فبينما كنتُ أزْدَرِدُ التأفُّفَ انتظارًا، كانا يُواصلان ضحكاتٍ بلهاء ويُطعَّمانها بثرثرة تَصِفُني بالجُبن مِن مُراهقات،.. لم أكُنْ مُغتبطة بذلك المَرح، بل بدَا لي أنَّهُما يُشغِّلان نصف عقلٍ فارغ.. ومع ذلك، وَاصلتُ قُربَهما الصَّمت العازِل عَنهما، العائِف للتَّبرير، فهو يومٌ من أيَّام الابتلاء في ضَبط النَّفْس،.. وما وصفاه "بالجُبن"، تُسميه عقليتي، إدارة باردة لموقف مُلْتبس وقد يُحرِج، فلا يُمكن التنبؤ بردود أفعال مَراهقات مَرفوع عنهن اللَّوم..
في مُجتمعنا، مُجتمع الرّيبة والرَّجم والزَّعم، تُمنحُ رتبة «سارق»، عن استحقاقٍ بقَدَر معلوم لبعض مُستحقِّيها، كما تُمنح مِرْيَةً عن مَظنَّة بسخاءٍ باذخ جُزافًا ،..
في يومِي التَّسوقي ذاك، لم تَشْغَلني السُّرعة التي منَحَتني بها المُراهقات الرُّتبة-الوَسْم، بقَدْر ما أقلقـتني إجراءات تَسلُّمي لِمَقامٍ سَافلٍ في سوقٍ شعبي..
تحياتي.